خلفيات دراسات جمهور وسائل الإعلام
وعلى الرغم من أهمية الإطار الإيديولوجي والسياسي في تحديد طبيعة الجمهور إلا أنه لا يعتبر الطرف النهائي في تحديد العملية الاتصالية ونقتصر على معالجة العوامل المؤثرة في هذه الدراسات و أهم نظريات تكوين الجمهور.
1/ عوامل تطوير دراسات الجمهور
و تتمثل في أربعة عناصر متداخلة في أسبابها ووسائلها ومختلفة في أهدافها :
أ) الدعاية :
احتلت الدعاية مجالاً واسعًا عن طريق الصحافة المكتوبة والسينما المتنقلة ولاسيما أثناء الحرب العالمية الأولى(1914-1918) والثانية (1939-1945) لتشمل عدد اكبر من أفراد المجتمعات الجماهيرية التي تعيرها النظريات الفلسفية والسيكولوجية على أنهم مجرد تجمعا ت بشرية إذ يتحكم فيها القادة الأقوياء واستمرت الدعاية كمحرك نشيط لدراسات الجمهور إلى الوقت الراهن مع اختلاف الأساليب والأهداف باختلاف المراحل التاريخية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.
اعتمدت دراسات الجمهور على نتائج أبحاث العلماء وفلاسفة السيكولوجية والسوسيولوجية والأثنية أمثال دروس فرويد، ماركن،وآخرون الذين وضعوا نظريات حول الطبيعة البشرية الفردية و الجماعية وتفاعلاتها النفسية والاجتماعية محاولة لفهم الشعوب مثلا: النازية،الفاشية، الشيوعيون،والليبراليون واستمرت الدعاية إلى غاية انهيار المعسكر الشيوعي في نهاية الثمانيات .
ولا تزال الدعاية الإيديولوجية للأحزاب والتيارات الفكرية واحدة من العوامل المنشطة للدراسات المنتصبة على الجمهور سواء بالحملات الانتخابية الدورية والظرفية لاستمالة الرأي العام لفرضه قضايا و أفكار معينة بأساليب دقيقة وعالية في إعداد أو إنجاز الحملات واستفتاء في الرأي العام ونشاطات العلاقات العامة الرامية إلى تحسين صورة الشخص أو المؤسسة أو النظام لدى الجمهور .
ب) الإشهار:
يعتبر الإشهار والإعلانات التجارية المحرك البارز في إعطاء دفع قوي لدراسات الجمهور سواء نعلق الأمر بالمعلنين أو الناشرين أو موزعي الرسائل الاشهارية على الجمهور.
عرفت أبحاث الجمهور تطورا في و م أ بعد الحرب العالمية 2 ليصبح ميدانا متخصصا يستجيب نموه لاحتياجات مجموع صناعي إلكتروني يركز على الجانب السمعي .
ومع انتشار ظاهرة "كونية" (النشاطات الإعلامية) وباستعماله المكثف لتكنولوجيات الإعلام الجديدة والتي تعمل على طابع الكونية على الجمهور (عولمة) globalisation بالموازاة مع عالمية الاقتصاد والثقافة الاستهلاكية والحملات التسويقية أصبح بالإمكان دراسة هذا الشكل من الجمهور المتعرض للرسائل الاشهارية من القنوات الفضائية ومواقع شبكة الويب .
إن العلاقة بين الإشهار والدعاية يكاد تختفي أهمية التفرقة بينهما إذ هناك ارتباط وثيق بينهما فالإعلانات هي بشكل أو آخر دعاية للبضاعة أو خدمة وهي في نفس الوقت تحمل مضامين بيولوجية و ثقافية سائدة في مجتمعات معدي ومرسلي الرسائل الاشهارية.
ج) الرأي العام:
يعتبر عامل من عوامل تنشيط دراسات الجمهور والاستجابة لفكرة الديمقراطية حيث تعمل الحكومات على كسب تأييد رعاياها في القرارات و المحافظة على قبول الرعايا ومصالحهم تحسبا للانتخابات اللاحقة و تعمل الأحزاب السياسية والأشخاص المتنافسة على السلطة تخصيص أموال معتبرة للحملات الإعلامية بتمويل الصحف ووسائل الإعلام الأخرى قصد كسب الرأي العام لصالحهم.
كان ظهور دراسات الرأي العام كلازمة للأنظمة الديمقراطية ثم تلتها دراسات الجمهور مع انتشار وسائل الإعلام كمظهر من مظاهر ممارسة الديمقراطية وقد تكثفت بحوث الجمهور خلال النصف الثاني من القرن 20 ضمن تطور الدراسات الإعلامية بصفة عامة حتى أصبحت صناعة قائمة بحد ذاتها متخصصة في قياس الرأي العام تعمل لحساب الأحزاب والحكومات والمصالح المالية والتجارية بم فيها وسائل الإعلام نفسها.
وفي نفس السياق تأثير الأفكار الجديدة حول الأجيال الجديدة لحقوق الإنسان في تطور دراسات الجمهور خاصة بعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948 الذي أنشأ الجيل الجديد الحق في الإعلام و الحقوق المجاورة والمشابهة وأصبح هذا الحق قانونيا في 1966 بعدما كان حقا نظريا في 1948 حيث من حق الجمهور أن يطلع على المعلومات والآراء التي تلبي حاجاته وتستجيب لاهتماماته لذا استوجب فرض دراسات لمعرفة احتياجات الجمهور الإعلامية المتغيرة بتغير ظروف المكان والزمان بصرف النظر عن كونه مستهلكا أو ناخبا.
د) الاحتياجات العلمية:
برزت الحاجة إلى دراسة جمهور وسائل الإعلام دراسة معمقة لأهداف علمية أكاديمية في النصف الثاني من القرن العشرين بعد التقدم الهائل في الدراسات المتعلقة بنظام مصادر الرسائل الإعلامية ومضامينها ووسائل الإعلام والآثار التي قد تحدثها في سلوكيات الجمهور.
فالكم الهائل من الدراسات التسويقية وتوجهات الرأي العام وفرت جوا للمقاربات الامبريقية مما دفع بالباحثين الإعلاميين إلى اختبار وإعادة صياغتها من أجل إثراء مشروع النظري العلمية للإعلام والاتصال وقد ازداد الاهتمام بهذه الدراسات والحاجة إليها بعدما تبنت دول العالم الثالث أفكار الحداثة والتنمية وقدرات وسائل الإعلام على المساهمة في عملية الانتقال من المجتمعات التقليدية إلى المجتمعات الحديثة وفقا لنظرية الإعلام الإنمائي وقد تجسد ذلك في إنشاء معاهدة متخصصة في الدراسات الإعلامية على مستوى أغلب جامعات تلك الدول تحت إشراف اليونسكو على برامجها.
وكانت البداية الفعلية للاهتمام العلمي بجمهور وسائل الإعلام مع ظهور فكرة الوظيفة التعليمية لوسائل الإعلام إذ أجرى علماء النفس السلوكي بحوثا يسرت نظريات التعليم واستعمال وسائل الإعلام في لأغراض تعليمية وتدريبية لذلك نجد جل الباحثين في المجتمعات الحديثة العهد بالاتصال يكتفون بدراسات تعليمية للحصول على درجة علمية أو ترقية مهنية.
2/ نظريات تكوين الجمهور
لازالت الدراسات الوصفية المنبثقة عن التوسع في استعمال السوسيوغرافيا تشكل الطابع الغالب لأبحاث الجمهور وجل الدراسات المهتمة باستعمال وسائل الإعلام وتأثيراتها على الجمهور ولكن نتائج هذه الأبحاث لا تكتسي أهمية كبرى بالنسبة للتراكم المعرفي لأن منطلقاتها وأهدافها الغالبة إما تجارب أو انتخابية ظرفية وتنطبق هذه الملاحظة على المجتمعات المنتجة والمصدرة للتكنولوجيات و الإيديولوجيات "الإعلاميتين" وتنعدم مثل هذه الدراسات في المجتمعات الهامشية لأسباب حضارية سياسية و اقتصادية و ثقافية واجتماعية.
وتبقى نتائج الدراسات التسويقية محدودة لاقتصارها على عوامل ديمغرافية واجتماعية تستعمل لتحديد حجم و تشكيل الجمهور وطبيعة أنماط سلوكياته .
يرى مكويل (MCQUUIL 1984) أن السن والطبقة والدخل ومستوى التعليم لها أهمية كبيرة في تحديد حجم جمهور أي وسيلة إعلامية لأن كل منها يتدخل في تحديد حجم الوقت وكمية المال اللازمين لاستعمال وسائل الإعلام فالسن يحدد مدى الاستعداد والحرية في اختيار واستعمال وسائل الإعلام حيث أن الأطفال الصغار مثلا يخضعون لاختيار العائلة ويتعرضون للتلفزة أكثر من أي وسيلة أخرى ومع تقدم السن يتغير إذ يكتسب حرية في تعامله مع وسائل الإعلام فيؤدي إلى استعمال الراديو والذهاب إلى السينما وعندما يصبح الشخص رب العائلة يعود إلى السباق المنزلي ولكن باهتمامات مختلفة مثلا تخصيص وقت أكبر لقراءة الصحف .
أما الدخل المرتفع فيقلل من استعمال التلفزة هذه الاعتبارات وغيرها مثل النوع ومكان الإقامة تساعد على وصف الجمهور وصفا مقبولا وتساعد على التقرب من حجمه ونوعيته ولقد أسفرت الدراسات عن تأسيس مجموعة من النظريات تتكامل فيما بينها لإعطاء نمطية وصفية للجمهور typology تهدف إلى تصنيف الجمهور وفق فئات وشرائح ديمغرافية وتحديد خصائصها وأساليب اتصالها ليسهل في النهاية تحليل واقعها في سياق اجتماعي ثقافي وتاريخي.
و يمكن تقسيم هذه النظريات إلى ثلاثة أنواع:
- النوع الأول و يهتم بالعروض التي تقدمها وسائل الإعلام.
- النوع الثاني يهتم بشروط التوزيع وإمكانيات الاستقبال.
- النوع الثالث يهتم بطلبات الجمهور.
ونتطرق إلى أهم النظريات المتداولة في الأدبيات الإعلامية الانجلوسكسونية بصفة خاصة لكونها الرائدة في هذا الميدان:
1/ نظرية الحدث التاريخي : historical accident
إن النظرية في حد ذاتها واسعة ولكنها تتضمن عنصرين رئيسيين في كل بنية لجمهور معين ويتدخلان بشكل مباشر في فهم بعض جوانب تكوين جمهور وسيلة إعلامية معينة من وجهة نظر تاريخية:
العنصر الأول:
ويتعلق بتاريخ وسيلة الإعلام نفسها إذ أن هذه الوسائل تطورت تاريخيا بالتدرج في توجهها لجماعات اجتماعية معينة قبل أن تتوسع لجماعات أخرى فالجريدة مثلا وجهت في أول مرة إلى قراء ذكور مدنيين (حضر أي يقيمون في المدينة) ينتمون إلى طبقة اجتماعية متوسطة، يشتغلون في حقل سياسي كما أن التلفزية وريث الفيلم و الراديو، الترفيه والتسلية وقضاء وقت الفراغ، تتوجه في الغالب إلى النساء والأطفال دون سن التمدرس والعجزة والمرضى والعاطلين عن العمل.
العنصر الثاني:
يخص نجاحات بعض وسائل الإعلام في تكوين و تطوير هوية أو شخصية اعلامية مميزة تتجه لنوع معين من الجمهور مثل هيئة الإذاعة والتلفزيون بي بي سي وجريدة le monde فهذه النظرية تعنى بتفسير نوعية جمهور الوسيلة الإعلامية من خلال تحليل مضمون عرض الذي تقدمه و مرتبط بمجرى الزمن.
2/ نظرية إدارة السوق: market managment theory
تهتم هذه النظرية بالعرض الذي تقدمه وسائل الإعلام لأنها تعتني بشكل مباشر بالسوق سواء تعلق الأمر بالوسيلة الإعلامية كسلعة أو كناقلة لرسائل إشهارية حول سلع مادية أو خدمات موجهة لزبائن وهي تشير إلى تأثير الإشهار على السياسة الإعلامية للمؤسسات و مضامين الرسائل الإعلامية التي تنقلها إلى جمهور معين فل يمكن إقامة مشروع إعلامي ناجح دون دراسة دقيقة توقيعية لمستهلكي الرسائل الإعلامية الإعلانية.
3/ نظرية الفروقات الفردية: individual differances theory
تركز هذه النظرية على مقولة " إعطاء الجمهور ما يريد " giving the public wat it wants وتندرج ضمن نظريات العروض التي تقدمها وسائل الإعلام وجوهر هذه النظرية أن تكوين جمهور وسيلة إعلامية هو نتيجة أفعال وخيارات عدد واسع من الأفراد ويختلف كل فعل أو اختيار على اختلاف الأذواق والمصالح والاهتمامات واختلاف القدرات العقلية للأفراد وترى هذه النظرية البراغماتية أن أنواع المحتوى المقدم على أساس الدراسة والتجريب من شأنه أن ينبئ بتوقعات معقولة حول حجم وتكوين الجمهور.
4/ نظرية اختلاف مصادر الترفيه : differential leisure resources
تندرج هذه النظرية ضمن نظريات الطلب وتركز على الاستعدادات والفائدة من استقبال الرسائل الإعلامية أكثر من تركيزها على المحتوى من قبل الجماعات الاجتماعية كما أنها تتوفر على ثلاث عناصر: وقت الفراغ المتوفر، والمستوى التعليمي ووفرة المال حيث يمكن النظر إلى استعمال وسائل الإعلام من قبل مختلف الفئات الاجتماعية كمركب لكل من هذه العناصر وبالتالي فان الأطفال والنساء والمسنين هي فئات متوفرة لديها وقت فراغ وقلة من المال حيث هذه الفئات غير مكلفة وتأخذ وقتا أوسع كما أن المستوى الثقافي له دور في تكوين الجمهور إلى جانب الدخل و توفر وسائل ترفيه وإعلام بديلة لوسائل الإعلام الجماهيرية.
5/ النظرية الوظيفية : functional theory
من نظريات الطلب، تتمحور على حوافز تدفع الجمهور الى استعمال وسائل الإعلام الجماهيرية بهدف إشباع حاجاته وحلول لمشاكله النفسية والاجتماعية وحاجته إلى الإعلام والترفيه فهذا يحدد حجم الجمهور ونوعه .
وتبدو هذه النظرية أكثر ملاءمة لدراسة تكوين الجمهور إلا أنها تخلط بين المحتوى والوظيفة في علاقة واحد لواحد مع أن مضمونا واحد لا يمكن أن يشبع احتياجات عديدة ومتنوعة ولا يمكنه أن يحل مشاكل نفسية و اجتماعية مختلفة.
6/ نظرية التفسير السوسيو ثقافي : socio-cultural explanation
إن تفسير ميكانيزمات تفسير جمهور وسائل الإعلام وفقا لقانون السوق (العرض و الطلب) تقدم تفسيرا مجزأ حسب الزاوية التي ينظر منها إلى تكوين الجمهور:
من زاوية تاريخية، استهلاكية، اختلافات فردية، وظائف وسائل الإعلام الاجتماعية ... وكل واحدة تهمل السياقات الثقافية والاجتماعية التي يوجد فيها الجمهور والمرتبطة بفضاء الحية المحلية حيث أن الإفراد أو الجماعات يميلون إلى إعطاء الأهمية للمحتوى الإعلامي المتعلقة بالمحيط القريب المألوف لديهم تخضع للقيم الاجتماعية والروحية السائدة فمن هنا فإن مناهج الأبحاث والدراسات الموضوعية المعتمد عليها تأخذ بعين الاعتبار ظروف البيئة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية وخاصة ظروف المكان والزمان لكل جمهور.
تطور مقاربات الجمهور
لقد تبين من خلال عرض بعض الجوانب النظرية و المفاهيمية المتعلقة بجمهور وسائل الإعلام و الدراسات الخاصة به أن الباحثين المهتمين بهذا الميدان لا يتعاملون مع أنموذج واحد أو مقاربة واحدة للاتصال الجماهيري ولكنهم يعالجون شيئا أكثر بقليل من مجموعة من التطلعات البديلة.
إن الدراسات الإعلامية لم تتوصل بعد إلى اعتماد أدبيات موحدة فهناك مثلا مصطلحات من مثل "دراسات الاتصال الجماهيري" ، "علوم الإعلام والاتصال" مجودة في الأدبيات الغربية وقد يعود تنوع مصطلحات الإعلام والاتصال إلى عدم التوصل بعد إلى صياغة نظريات تعيد بلورة مبدأ تداخل العلوم الذي تم التخلي عنه منذ انفصال العلوم الأخرى عن الفلسفة واعتماد فلسفة التخصص والنماذج المتبعة في البحث العلمي الإعلامي وواقعه حتى في الدول المتقدمة لم تتوصل بعد إلى صياغة "كيان نظري متكامل لعلم الاتصال" باعتباره أحد العلوم المستقبلية غير أن هذا الأمر لم يوجد له مثيل في الدول الانتقالية وفي مقدمتها الدول العربية والراجح أن هناك عديد من المحاولات النادرة التي قام بها بعض الباحثين العرب في ميدان الدراسات الإعلامية لم تنشر على نطاق واسع لأسباب عدة لعل أن في مقدمتها أن الحقائق المتعلقة بالواقع الاجتماعي ولو أنها نسبية ولا تنتمي للعلوم الصحيحة الأمر الذي يلغي الحرية العلمية المتمثلة في حرية الفكر وحرية البحث العلمي والتعبير عن النتائج والنشر.
ومن هنا يبقى المصدر الوحيد للدراسات النظرية والإمبريقية ذات المصداقية والدلالة العلمية هو المجتمعات المتطورة التي جعلت من العلم والمعرفة والتكنولوجيات الروافد الأساسية والآمنة لنهضتها واستمرارها في النهوض والتطور الدائم في الزمن و المكان .
لكن عند محاولة توظيف هذه المعارف العلمية فيما يتعلق بالعلوم الإنسانية والاجتماعية تطرح أمام الباحثين تحديات ابستيمولوجية كبرى من نوع آخر، وتواجه محاولات تأصيل و توظيف مناهج بحث نشأت في بيئات ثقافية واجتماعية ونفسية معينة من أجل تحقيق أهداف مغايرة وتعدد النماذج والنظريات والمقاربات والأساليب المنهجية مكن من تراكم تراث نظري ومنهجي متطور تطورا تصاعديا.
خلفية التاريخ الطبيعي لأبحاث التأثير :
تجدر الإثارة في هذا التذكير التاريخي إلى هذا التقسيم الذي يبدو مساير للتسلسل الزمني إذ هو محاولة قراءة التطور الذي مهدته أبحاث الجمهور عبر مختلف المراحل التاريخية انطلاقا من وقائع الوضع الراهن وتدخلت عوامل محيطية لعبت دورا بارزا في رسم معالم مميزة لتاريخ نظريات التأثير وهيكلة فعل التلقي وتفكيك البيئة الاجتماعية بتصور نموذج اتصالي جزئي لجمهور مجزأ ومحاولة تخطي الوجود المادي للجمهور وتبني السلوك المعبر عن هذا الوجود اللامادي في العالم الإلكتروني إذ يعتبر هذا الجمهور له قدرة التواجد في كل مكان وفي نفس الزمان .
ومن أبرز تلك العوامل المساعدة، مصالح الحكومات والمشرعين واحتياجات الصناعات ونشاطات الجماعات الضاغطة واهتمامات مروجي الدعاية السياسية والتجارية وتنامي دور الرأي العام في الحياة السياسية والاجتماعية وموطنة العلوم الاجتماعية التي تضفي نوعا من الطابع العلمي يخرجها قليلا من الدائرة الإيديولوجية .
وقبل القيام بتصنيف تراث أبحاث الجمهور من المفيد إبراز أهم المحطات في هذا التاريخ الطبيعي لأبحاث الجمهور:
/1ما قبل التحريات العلمية:
تمتد هذه المرحلة من بداية القرن العشرين إلى أواخر الثلاثينات منه ويمكن أن يطلق عليها مرحلة ما قبل التحريات أو التحقيقات العلمية حيث كانت المحاولات التي تتناول العلاقة بين ما تبثه وسائل الإعلام والجمهور المتلقي عبارة عن انطباعات أراء ونظريات ذاتية أكثر منها استنتاجات لتحليل وقائع موضوعية .
في هذه المرحلة كانت النضرة لوسائل الإعلام أنها مصدر لقوى خفية خارقة تعمل على صقل الرأي والاعتقادات وفقا لإرادة أولئك الذين يملكون سلطة الرقابة على هذه الوسائل وتوجبه نشاطاتها نحو مواضيع معينة ويمتلكون قوة الـتأثير ولم تكن هذه الأفكار قائمة على أساس تحريات علمية بل مجرد أراء مستوحاة من الملاحظة الشعبية التي تكتسبها الصحافة و الوسائط الجديدة وما زاد في ترسيخ فكرة التأثير تدعيم المعلن والحكومات الإمبراطورية في أوربا خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية.
خاصة النطاق الواسع الذي شهده الراديو والتلفزيون إذ أن أول نوع من التآلف مع هذه الوسائل تتضمنه "نظرية المعنى العام" التي تشير إلى الأفكار التي يكونها عامة الناس حول موضوع معين والمستمدة أساسا من التجربة المباشرة والاستعمال الشخصي لهذه الوسائل والانطباعات التي تولدها هذه التجربة ويثير هذا الاستعمال، وقد أثارت مؤشرات فضاء الاتصال والإعلام الجديد فضول الباحثين المهتمين بمتابعة ظواهر الحياة الاجتماعية وملاحظة التغيرات المتتالية وخاصة التأثيرات الحاصلة في سلوك الناس فجاءت البدايات الأولى للتحريات الموضوعية في مجال البحث الإعلامي تحاول توظيف خلاصات التأملات النظرية و التجارب المنهجية التي كانت قد توصلت إليها مختلف فروع المعرفة الاجتماعية والنفسية لا سيما السوسيولوجيا العامة والسيكولوجية الفردية والاجتماعية في تفسير الظواهر الجديدة والعلاقات القائمة والممكن قيامها بين مختلف التغيرات التي أسندت لوسائل الإعلام.
فقد تميزت الدراسات الإعلامية منذ انطلاقتها الأولى بالتوجه السوسيولوجي والسيكولوجي الاجتماعي بالدرجة الأولى،هذا التوجه الذي يلازمها عبر تاريخها الطبيعي .
والأحداث الكبرى التي شهدتها تلك المرحلة الأولى عجلت إيجاد مناهج وتقنيات جديدة لفهم و تفسير مكانة دور وسائل الإعلام أسست لبروز اتجاه امبريقي سيسمح بتجاوز قصور انطباعات المعرفة العلمية والأفكار التأملية والنمطية النظرية على تفسير الظاهرة الاتصالية الجديدة .
2/ مرحلة التحريات العلمية :
ظهر في سياق الاعتقادات و التفكير مع بداية العشرية الرابعة من القرن الماضي نوع جديد من التحريات أسس لدخول البحث العلمي في مجال الجمهور استنادا إلى منهج المسح والتجربة الخبرية ويعتمد على خلاصات علم النفس الاجتماعي والرياضيات والإحصاء والسير ينقيا.
وقد أجريت دراسات امبريقية متفرقة على تأثير أنواع من المحتوى خاصة الأفلام وبرامج الحملات الانتخابية والإشهارية وهذا ما قام به "لازارسفالد" حول دور الصحافة في الحملة الانتخابية لرئاسيات 1940 وتأثير الفيلم السينمائي على الجنود الأمريكيين.
وقد أسندت تلك الدراسات ابتداء من دراسة "لازارسفالد" و "كاتز" دورا متواضعا لوسائل الإعلام في إحداث التأثيرات المتوقعة أو غير المنتظرة وغير المرغوب فيها لخصت في دراسة حول أبحاث الجمهور للباحث "جوزاف كلابر" سنة 1962 وفيه العبارة "إن وسائل الاتصال لا تعمل عادة كسبب ضروري وكاف للتأثير في الجمهور ولكن بالأحرى تعمل ضمن جملة من عوامل التبليغ الوسيطة المترابطة ".
ولم يكن سهلا أن تتغير الآراء خارج المجتمع العلمي الاجتماعي وكان من الصعب أيضا قبول هذه الأفكار الجديدة (إن وسائل الإعلام يحدث في كل الظروف نفس التأثيرات البالغة) بالنسبة لأولئك الذين تعودوا على تصميم الحملات الإشهارية والدعائية على أساس الأفكار السابقة ومحترفي الإعلام الذين كانوا يؤمنون بالقوى السحرية لوسائل مهنتهم وقد سلم العديد من الباحثين ابتداء من الستينات بممارسة وسائل الإعلام لنوع من التأثير يحدث غالبا على المدى البعيد وقد اتسع هذا التفكير بانتشار التلفزيون كوسيلة تكنولوجية منزلية وحيدة وهي تعتبر ميزة القرن الماضي إلى أن ظهر الحاسوب الشبكات العالمية "الانترنت" في عملية تفاعلية متمايزة لم يسبق لها مثيل في تاريخ دراسات تأثير تكنولوجيات الاتصال الحديثة وأدخلت أبعاد جديدة التعرض التزامني واللاتزامني وأنماط السلوك الاتصالي وقد استمرت هذه المرحلة من التنظير إلى أن جاء"Morley" و تكلم حول الجيل الثالث من دراسات التلقي إلى جانب "دانيال ميلر" و "دون سلايتز" تتعلق بالمقاربة الاثنوغرافية لتحليل استعمال الانترنت في بيئات سوسيوثقافية مختلفة.
وقد طرح التساؤلات حول كيف أن ثقافة معينة تحاول أن تستمر في "منزلها" في المحيط الاتصالي السريع التحول (غير المستقر) و كيف يمكن لهذه الثقافة أن تكيف وتدمج هذا الوسيط في خصوصياتها المحلية و تطوعه لخدمة عملية التعولم و معرفة الآثار (التأثيرات المتبادلة) بين تلك العناصر المدمجة واستمر التفكير في وجود "تأثير " و "تأثير قوي " الذي يطبع بين رسائل الإعلام و الجمهور وخاصة درجة التعرض لها وقياس التغيير (نوع التغيير) أو نقل نوع التنوع أي تغير المواقف و الآراء و الأفكار.
3/ ما بعد التحريات العلمية :
بعد عرض حول دراسات تأثير وسائل الإعلام في الجمهور ولكن الأجدر قوله أن وسائل الإعلام لا تتوفر في ذاتها على قوة تأثير ولكن يتوقف الأمر على اعتقاد الناس في قدرتها على التغيير مجرى الأحداث والأفكار والاتجاهات وكان كاري (1978) قد حاول تفسير إشكالية التأثير ودرجاته واللاتأثير وحدوده بتغيير الاعتقاد في قدرة وسائل الإعلام .
فقد ناد الاعتقاد في قدرة وسائل الإعلام الجماهيري على التأثير البالغ في فترة الثلاثينيات تحت ظل ضغوطات نفسية وتيارات السياسية وفرت أجواء الحرب وخلقت الأرضية خصبة لإنتاج بعض أنواع التأثير فحين نهاية الستينيات وبداية السبعينيات شهدت توترات دولية نتيجة الحروب العربية الإسرائيلية (1967/1973) وأزمتي البترول سنتي (1973- 1985) وزيادة الصراع الأيديولوجي (إ.س / و.م.أ) إضافة إلى سقوط جدار برلين (1989) وغيرها من الأزمات التي عرضت البنيات الاجتماعية للاهتزازات وجعلتها أكثر حساسية لوسائل الاتصال الجماهيري خاصة وأن هذه الوسائل تكاد تحتكر الحقائق والأراء حول الوقائع لا سيما القنوات التلفزيونية الفضائية الآنية والمواقع الالكترونية المتخصصة على الانترنت .
غير أن بعض الباحثين يعتقدون أن الأمر لا يتعلق بقدرة وسائل الاعلام على التأثير بقدر ما يتعلق باجتماع أسباب قد تكون مصادفة زمنية جعلت وسائل الاعلام تبدو بتلك القوة في مرحلة تاريخية معينة.
مما يزيد في تلك الفتراضية لوسائل الاعلام الجماهيري أن الحكومات وأصحاب الماليستعملون وسائل الاعلام في محاولة التأثير على الناس ومراقبة وتوجيه سلوكهم هذا يعني أن وسائل الاعلام يمكن أن تكون في ظروف تاريخية،نفسية ،اجتماعية،اقتصادية ذات قوة بالغة بالنظر الى الاستجابات الفورية أو المتوسطة التي يبديها الناس إزاء الدعوات الهادفة إلى تغيير المواقف والآراء في اتجاه يخدم مصالح هذه الأطراف.
تطور مقاربات الجمهور
في هذا الصدد، يمكن تمييز التوجهات الحديثة الكبرى لأبحاث الجمهور التي تبلورت منذ السبعينيات ضمن نوعين من التيارات البحثية، النوع الأول الذي يمكن أن نطلق عليه: أنموذج التأثير، الذي أحدث قطيعة مع الأنموذج السائدة منذ الأربعينيات، حيث تخلى عن تحليل التأثير قصير المدى، حجر الزاوية في نظرية لازارسفيلد ليهتم بالتأثير الإدراكي (COGNITIVE)على المدى البعيد لمجموع أنظمة وسائل الإعلام (مؤسسات اجتماعية)، خاصة الأبحاث المتعلقة بتكوين الرأي العام.
وظهر النوع الثاني الذي يمكن أن نسميه أنموذج التلقي، في بداية الثمانينات ليهتم بالكيفية التي "يؤول بها الملتقى الرسائل الإعلامية" أي التركيز على عملية التلقي في حد ذاتها باعتبارها ممارسة لها أسسها اجتماعيا وثقافيا ، وباعتبارها عملية بناء اجتماعي للمعاني التي يضيفها المتلقي على الرسائل الإعلامية.
1.أنــــــمــوذج الـــتأثــيــر:Effect paradigms
ويشمل هذا الصنف عموما، مجموعة النظريات والمقاربات التي تناولت التأثير البالغ والمباشر والتأثير المحدود الفوري الطويل المدى ثم المزيد من التأثير.
وهي تهتم بالتغير أو التحول الذي قد يلاحظ في سلوكيات الجمهور ومواقفه وحالاته الانفعالية الذهنية الإدراكية والمعرفية أثناء وبعد التعرض لوسائل الإعلام وعلاقة هذا التغيير مقارنة بالوضع السابق للتعرض.
وتوصف هذه النماذج بكونها تشاؤمية لنظرتها السلبية لقدرة الجمهور على مقاومة القوة الخارقة لوسائل الإعلام التي تحدث تأثيرا في اتجاه خطي شاقولي.
ونشير هنا إلى نموذج القوى البالغة لوسائل الإعلام (power ful media) ، ونموذج الوخز الإبري (hypodermie paradigm) والقذيفة السحرية .
وفي المرحلة اللاحقة ظهرت نظرية أقل تشاؤما مثل تأثير وسائل الإعلام غير المباشر عبر قادة الرأي أو التدفق الإعلامي عبر خطوتين والتدفق عبر خطوة واحدة ثمة التدفق عبر خطوات متعددة ، ثم العودة إلى مزيد من التأثير المعمم على عدد متزايد من الناس مع تزايد الأزمات، والتوترات وتزايد تحكم وسائل الاتصال الحديثة في النشر الآتي للمعلومات عبر وسائل أقل تكلفة وأقل جهدا وسهلة الولوج إليها وأكثر قابلية للاستعمال، إذ تعتبر أسرع تكيفا مع حاجيات الناس المتمايزة وأكثر جاذبية وفي متناول جماعة من الناس غير محدودة عدديا .
فبالرغم من اتساع اعتقاد أن هذا الصنف له قدرة في إحداث تأثير إلا أنه فقد العديد من النماذج خاصة الأنموذجين التقليدين الأولين: القوى الخفية والقذيفة السحرية، الذين سادا في البدايات في محاولات تفسير إقبال الناس على مشاهدة الفيلم الجذاب أو قراءة القصة المشوقة .
كما كاد يختفي أنموذج الإعلام اللانهائي الذي يزعم أن لوسائل الإعلام دور كبير وفعال في حث الناس وتهيئتهم للانطلاقة (tamauff) الإنمانية لمجتمعاتهم ، وانتقالها من الحالة التقليدية إلى الحداثة.
وهناك نماذج لم يعد لها أهمية مثل أنموذج الامبربالية الثقافية، والغزو الثقافي الذي ازدهر خلال العقدين السادس والسابع من القرن الماضي، وهناك نماذج أخرى تتجدد تبعا للمستحدثات التكنولوجية وتلح على البقاء والاستمرار لارتباطها بتيارات الإيديولوجية مثل: نموذج الاستعمال والإشباع (use and grati ficatior) ونموذج تحديد مواضيع الاهتمام ونموذج لولب الصمت.
2.أنموذج التلقي: Reception paradigms
يقصد بها النظرية العامة والنظرات الفرعية والمقاربات التي حولت محور الدراسة من محتوى الرسالة وعلاقاته بالتأثير الذي قد يحدث في سلوك الجمهور أي علاقة الرسالة بالتأثير الناجم عن محاولة الإجابة عن التساؤل الأولي ماذا تفعل وسائل الإعلام في الجمهور.
في نموذج لازويل التركيز على مصير الرسالة بعدما يتلقاها الجمهور الانتقائي القوي والفعال الذي أعيد له الاعتبار نتيجة تغيير إستراتيجية البحث إلى ماذا يفعل الجمهور بوسائل الإعلام؟.
وأحدثت هذه المقاربة إشكالية جديدة بأنموذج الاستعمال والإشباع لـ: كاتز وأنموذج التفاعل والتأويلات لـ: مورلي نقل نوعية في أبحاث الجمهور إذ أصبح التركيز على العلاقة بين الرسالة والمتلقي.
وتعتبر هذه النظرية امتدادا لنظرية التأثير والتقبل الألمانية التي ظهرت في أوساط الستينيات من القرن الماضي موازاة مع التيارات الماركيسية والواقعية الجدلية والمناهج البيوغرافية التي تركز اهتماماتها على المبدع حياته ظروفه أو القائم بالاتصال أو المرسل .
كما جاءت موازية للتيارات النقدية التقليدية التي كان ينصب اهتمامها على المعنى وكذا التيارات البنيوية دون مراعاة القارئ.
وترى نظرية التلقي أن أهم شيء في عملية التواصل الأدبي هي تلك المشاركة الفعالة بين المشارك والقارئ أي الفهم الحقيقي للأدب ينطلق من وضع القارئ في مكانه الحقيقي وإعادة الاعتبار له باعتباره هو المرسل إليه والمستقبل للنص ومستهلكه لأن المؤلف ما هو إلا قارئ للأعمال السابقة.
ويركز المنظرون الإعلاميون على الدور الذي يلعبه الجمهور في فك رموز الرسائل وإضفاء معاني عليها أي المعنى الذي يقصده القائم بالاتصال .
وتعتبر نظرية التلقي واحدة من أبرز النظريات المعاصرة التي أعادت الاعتبار لفعل التلقي كأساس لعملية تواصلية من المرسل والمستقبل إذ تهتم بتفسير آليات فهم النصوص والصور الإعلامية فالمعنى يولد لدى المشاهد والنص .
ويرى أصحاب هذه النظرية أن العوامل السياقية لها تأثير أكثر من العوامل النصية على الطريقة التي يشاهد بها المتلقي الفلم أو البرنامج التلفزيوني.
يعتقد الباحث مخلوف بوكروح أن الفضاء الأكثر ملائمة لدراسة عملية تلقي الرسالة هو المسرح إذ فيه تتجلى استجابة الجمهور بصورة مباشرة .
يحلل الباحثون الثقافيون الثقافة الجماهيرية على أنها تعبير عن العلاقات بين الأفراد والطبقات الاجتماعية في السياق الاجتماعي والسياسي الخاص بالمجتمعات الرأسمالية وينظرون لوسائل الإعلام كجزء لا يتجزأ من نظام التفاعلات الرمزية.
يساهم في انتاج فضاء رمزي أكثر مما هي أدوات في خدمة طبقة مهيمنة، وهنا يلتقي منظور الدراسات الثقافية مع منظور الاستعمال والإشباع في القول " أنّ الناس هم الذين يفعلون شيئا بوسائل الإعلام وليس العكس".
ولفهم تأويل مشاهدة معين لمنتوج تلفزيوني ما، يلجأ الباحثون لمنظور أكثر نفعية حيث يستعملون بكثافة المناهج الأنثوغرافية لجمع المعطيات: الاستجوابات العميقة والملاحظة المباشرة والملاحظة بالمشاركة.
الاتجاه الامبريقي في دراسات الجمهور
رأينا أن النظريات والنماذج المتعلقة بالجمهور تتسم بنوع من التباين في أطروحاتها وأحيانا بتناقض في نتائجها وقد يرجع ذلك إلى درجة العلمية التي بلغتها العلوم الاجتماعية في محاولتها الاقتراب من مستوى اليقين والثبات في العلوم الطبيعية.
إذ ساعدت محاولات تطبيق مناهج العلوم التجريبية على العلوم الاجتماعية وتوسيعها إلى علوم الإعلام والاتصال، على ظهور نوع من الدراسات الميدانية، يطلق عليه عادة "الأبحاث الأمبريقية" (Empirical Researches) تعتمد على المعطيات الواقعية أكثر من اعتمادها على النظريات التي تبقى مع ذلك تقود خطوات البحث الأمبريقي وتؤطر أساليبه. ويستخدم البحث الأمبريقي منهجا معينا ذا قواعد معينة تؤدي إلى نتائج معينة.
ويمكن اختبار صحة المنهج المستخدم والنتائج المتوصل إليها بحيث إذا استخدم باحثون آخرون نفس المنهج في سياقات اجتماعية وثقافية متشابهة، وجب الوصول إلى نفس النتائج، وإلا هناك خطأ ما ينبغي البحث عنه وتصحيحه،فإذا توصل باحث على سبيل المثال إلى أن "س" من جمهور حصة "آخر كلمة") التلفزيونية في الجزائر هم من فئة الشباب الأقل من "ص" سنة، باستعمال أسلوب الاستمارة، وجب أن يتوصل باحث آخر في نفس الظروف إلى نتائج تقارب قيم "س" العددية في البحث الأول.
فالبحث الأمبريقي يمكن التحقق من نتائجه ومدى مطابقتها للواقع، ويمكن للبحث الأمبريقي بهذه الصفة أن يختبر صحة أو خطأ فرضية أو تحليل نظري، مثل ما فعل لازارسفالد وآخرون بشأن نظرية التأثير البالغ والشامل لوسائل الإعلام على المتلقين، حيث أثبتت نتائج البحث الميداني الذي أجراه هذا الفريق على دور ومكانة وسائل الإعلام في الحملة الانتخابية الرئاسية، بطلان نظرية "الوخز الإبري" أو " القذيفة السحرية" التي تمارسها وسائل الإعلام على أفراد "المجتمع الجماهيري"، وفقا للافتراضات السابقة لهذه الدراسة.
وعلى الرغم من الانتقادات التي وجهت للدراسات الأمبريقية والتشكيك في قيمتها العلمية، فإنها تتميز بما يلي:
- الموضوعية، أي الابتعاد عن الذاتية بقدر التقرب من الواقع موضوع الدراسة.
- إمكانية التحقق من النتائج، أي إمكانية إعادة الدراسة للتأكد من صحة أو خطأ النتائج المتوصل إليها.
- استخدام أسلوب أو منهجية بحث مناسبة للقضية، موضوع البحث الأمبريقي.
- الاستمرار مع النتائج السابقة، أي أن الباحث مطالب بالإطلاع على نتائج الأبحاث السابقة التي أجريت حول موضوع بحثه.
- الانسجام بين محتوى الفرضيات والنتائج المتوصل إليها.
- احترام صارم للأمانة العلمية وأخلاقيات البحث لتفادي التلاعبات السياسية التي غالبا ما تحاول توجيه نتائج الدراسة، وبخاصة في ميدان سبر الآراء.
ويمكن حصر أهم جوانب الدراسة الأمبريقية فيما يلي:
أولاً- الأبحاث الأمبريقية التي يشار إليها في الأدبيات الأنجلوسكسونية عادة بأبحاث الجمهور(Audience Research)، ترتكز بالأساس على العمل الميداني fieldwork أي جمع المعطيات والبيانات والمعلومات المتعلقة بحجم الجمهور وبنيته الديموغرافية والمهنية والسوسيو-ثقافية وأنماط التفاعل مع الرسائل الإعلامية.
وبتأثير من نفس العوامل السياسية والاقتصادية التي أدت إلى ازدهار دراسات الجمهور النظرية، وتطور الأبحاث الميدانية في اتجاه تبسيطي مضر أحيانا بالنزاهة والجدية والصرامة العلمية. ولكن هذا الاتجاه التبسيطي يبدو مجديا اقتصاديا وسياسيا، حيث ازدهرت اقتصاديات أبحاث الجمهور، خاصة سبر الآراء والدراسات التسويقية حتى أصبحت مجالا واسعا للتنافس بين أطراف عديدة منها الحكام والسياسيين والمعلنين والتجار ومكاتب الدراسات ومصنعي أجهزة القياس الإليكترونية.
كما تتسابق صناعات تقنيات سبر الآراء على تطوير الآلات الأوتوماتيكية والإليكترونية (Audiomètre, People Meter)تحولت من القياس الكمي الذي يقتصر على متابعة حالة أجهزة الاستقبال الإذاعي والتلفزيوني ونسخ سحب الجرائد والمجلات ومقاعد دور السينما والمسارح، إلى قفزة نوعية تحصي وتفرز الأشخاص الذين يشاهدون ويستمعون ويقرءون ويتفرجون على عرض درامي أو يبحرون افتراضيا عبر المواقع الإليكترونية. تتم عمليات الإحصاء والفرز والتصنيف بسرعة فائقة بفضل المعلوماتية التي تـطور يوميا أدوات الإحصاء وبرمجيات المعالجة الإليكترونية والتحكم عن بعد والبريد الإليكتروني وأنظمة الرسائل القصيرة للهاتف الرقمي والتيليماتيك وغيرها من التقنيات المتطورة بسرعة مذهلة تصعب متابعتها ورصد انعكاسات بنفس السرعة.
ثانياً- أساليب الأبحاث الأمبريقية الشائعة هي أخذ عينة تمثيلية للجمهور المراد بحثه وقياس حجمه وكيفية تشكيله وأنماط استجاباته للرسائل الإعلامية، إلى جانب قياس فئات العينة: السن، والجنس، والمستوى التعليمي، والوضع الاجتماعي أو مستوى الدخل، والمهنة، والدور الاجتماعي، ومكان الإقامة. تأخذ بعين الاعتبار الخصائص السيكولوجية والسوسيولوجية والسياقات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي يجري فيها التفاعل بين الجمهور والرسائل الإعلامية.
وهناك ثلاثة أساليب تستعمل على نطاق واسع في دراسة جمهور أي وسيلة إعلامية:
1/ أسلوب البحث التجريبي(Experimental) ويستعمل خاصة في عملية الكشف عن الخصائص السيكولوجية والاجتماعية والتفاعل الاجتماعي وتأثير السياقات المتنوعة في استجابة الجمهور للرسائل الإعلامية.
2/ أسلوب المسح (Survey Method) ويقوم أساسا على الاستجوابات والاستمارات لتحديد فئات الجمهور على أساس الجنس والسن ومستوى التعليم والوظيفة والمواقف والآراء...
3/ أسلوب دراسة الحالة (Case Study) ويستخدم الملاحظة ومتابعة الحالة المدروسة لفترة زمنية معينة، والمقابلة الجماعية أو الفردية والوثائق. وهو أسلوب لبحث ظاهرة معينة في فضاء معين، لكن نتائجها غير قابلة للتعميم.
ثالثاً - مؤسسات أبحاث الجمهور: ظهرت أبحاث الجمهور الميدانية مع ظهور وسائل الإعلام الإليكترونية (الإذاعة في العشرينيات والتلفزيون في الخمسينيات) في كل من المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، ثم تلتها فرنسا بعد إدخال الإشهار التجاري في التلفزيون سنة 1968.
ولم تعرف هذه الأبحاث أية انطلاقة جدية في الجزائر بعد أكثر من أربعة عقود من الاستقلال، كما هو الشأن في البلدان المشابهة لها في الظروف الديموغرافية والسياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية.
وقد يرجع ذلك إلى جملة من العوامل منها على وجه الخصوص:
- انعدام المعطيات الإحصائية الدقيقة أو عدم نشرها.
- حداثة التعددية السياسية والإعلامية، أي غياب مبررات التنافس التجاري والسياسي على المواطن كزبون وكناخب.
- غياب مؤسسات البحث العلمي وتقاليد التحقيقات والتحريات الاجتماعية.
- غياب تقاليد التعامل مع المحققين، وأحياناً الخوف منهم والتشكيك في نوايهم.
- إخفاء الحقيقة نتيجة الريب والخوف، وأحينا اللجوء للكذب لتضليل المحققين.
غير أن إقبال الجزائر على الاندماج في الاقتصاد المعولم وتعدد وسائل الإعلام الإليكترونية التي يتعرض لها الجمهور الجزائري، أصبح يشكل مؤشرات جديرة بالاعتبار عند الحديث عن مستقبل أبحاث الجمهور في الجزائر.
أبحاث الجمهور في الجزائر
ورغم ذلك فهناك محاولات ذات أهمية قام بها جيل جديد من الباحثين في قسم علوم الإعلام والاتصال بجامعة الجزائر خلال العقد الأخير (1995-2006) تمثلت خاصة في مناقشة 144 أطروحة ماجيستر ودكتوراه دولة في مختلف مجالات الدراسات الإعلامية، منها 30 دراسة تعالج بصفة مباشرة أو غير مباشرة مختلف مظاهر الجمهور قام بها أساتذة و/أو طلبة في إطار واجبات بيداغوجية بهدف الحصول على درجة علمية أو ترقية مهنية، يمكن أن تشكل منطلقات لأبحاث الجمهور في سياق الآفاق التي تميز التوجه الاجتماعي-السياسي العام.
مؤسسات البحث في مجال الجمهور
وعموما، هناك ثلاثة أنواع من المؤسسات التي تقوم بأبحاث الجمهور لأهداف تجارية و/أو سياسية و/أو علمية.
1/ وسائل الإعلام:
تنجز المؤسسات الإعلامية دوريا أبحاثا لمعرفة جمهورها في محاولة لتلبية رغباته وإشباع حاجاته للإعلام والتثقيف والتسلية والترفية، والتي تختلف من جمهور إلى آخر، وخاصة لزيادة مبيعاتها ومدا خيلها من الإشهار الذي يشكل عموما النسبة الأعظم في تمويل وسائل الإعلام التجارية. وتتوفر المؤسسات الإعلامية الجدية الكبرى والصغرى على دوائر وأحيانا مراكز متخصصة، مهمتها متابعة التغيرات التي تطرأ على حجم الجمهور وحاجاته ومواقفه من نشاطات المؤسسة. وتكاد لا تخلو أية مؤسسة جدية من مصلحة تهتم بمتابعة حالة الجمهور متابعة دورية منتظمة لا تتجاوز أسبوعا بالنسبة لمجموع البرامج ويوميا بالنسبة لبعض الأنواع من البرامج.
2/ مكاتب دراسات:
تنجز دراسات مسحية عند الطلب لجهات تجارية في المجتمعات التنافسية، حيث تشكل هذه الدراسات سوقا اقتصادية وإعلامية مزدهرة.
انظر/ الاتجاه الأمبريقي في دراسات الجمهور
تعليقات
إرسال تعليق