القائمة الرئيسية

الصفحات

محاضرة الاتجاه الأمبريقي في دراسات الجمهور


مدونة علوم الإعلام والاتصال



 رأينا أن النظريات والنماذج المتعلقة بالجمهور تتسم بنوع من التباين في أطروحاتها وأحيانا بتناقض في نتائجها، وقد يرجع ذلك إلى درجة العلمية التي بلغتها العلوم الاجتماعية في محاولتها الاقتراب من مستوى اليقين والثبات في العلوم الطبيعية، إذ ساعدت محاولات تطبيق مناهج العلوم التجريبية على العلوم الاجتماعية وتوسيعها إلى علوم الإعلام والاتصال، على ظهور نوع من الدراسات الميدانية، يطلق عليه عادة "الأبحاث الأمبريقية" (Empirical Researches) تعتمد على المعطيات الواقعية أكثر من اعتمادها على النظريات التي تبقى مع ذلك تقود خطوات البحث الأمبريقي وتؤطر أساليبه، ويستخدم البحث الأمبريقي منهجا معينا ذا قواعد معينة تؤدي إلى نتائج معينة.


 ويمكن اختبار صحة المنهج المستخدم والنتائج المتوصل إليها بحيث إذا استخدم باحثون آخرون نفس المنهج في سياقات اجتماعية وثقافية متشابهة، وجب الوصول إلى نفس النتائج، و إلا هناك خطأ ما ينبغي البحث عنه وتصحيحه، فإذا توصل باحث على سبيل المثال إلى أن "س" من جمهور حصة "آخر كلمة" التلفزيونية في الجزائر هم من فئة الشباب الأقل من "ص" سنة، باستعمال أسلوب الاستمارة، وجب أن يتوصل باحث آخر في نفس الظروف إلى نتائج تقارب قيم "س" العددية في البحث الأول. 


فالبحث الأمبريقي يمكن التحقق من نتائجه ومدى مطابقتها للواقع، ويمكن للبحث الأمبريقي بهذه الصفة أن يختبر صحة أو خطأ فرضية أو تحليل نظري، مثل ما فعل لازارسفالد وآخرون بشأن نظرية التأثير البالغ والشامل لوسائل الإعلام على المتلقين، حيث أثبتت نتائج البحث الميداني الذي أجراه هذا الفريق على دور ومكانة وسائل الإعلام في الحملة الانتخابية الرئاسية، بطلان نظرية "الوخز الإبري" أو " القذيفة السحرية" التي تمارسها وسائل الإعلام على أفراد "المجتمع الجماهيري"، وفقا للافتراضات السابقة لهذه الدراسة.


 وعلى الرغم من الانتقادات التي وجهت للدراسات الأمبريقية والتشكيك في قيمتها العلمية، فإنها تتميز بما يلي:


1- الموضوعية، أي الابتعاد عن الذاتية بقدر التقرب من الواقع موضوع الدراسة.

2- إمكانية التحقق من النتائج، أي إمكانية إعادة الدراسة للتأكد من صحة أو خطأ النتائج المتوصل إليها.

3- استخدام أسلوب أو منهجية بحث مناسبة للقضية، موضوع البحث الأمبريقي.


وللاستفادة علميا من نتائج الأبحاث الأمبريقية، يوصي الاختصاصيون بضرورة مراجعة جملة من الاعتبارات منها:


  • الاستمرار مع النتائج السابقة، أي أن الباحث مطالب بالإطلاع على نتائج الأبحاث السابقة التي أجريت حول موضوع بحثه.
  • الانسجام بين محتوى الفرضيات والنتائج المتوصل إليها.
  • احترام صارم للأمانة العلمية وأخلاقيات البحث لتفادي التلاعبات السياسية التي غالبا ما تحاول توجيه نتائج الدراسة، وبخاصة في ميدان سبر الآراء.
  • انعدام المعطيات الإحصائية الدقيقة أو عدم نشرها.
  • حداثة التعددية السياسية والإعلامية، أي غياب مبررات التنافس التجاري والسياسي على المواطن كزبون وكناخب.
  • غياب مؤسسات البحث العلمي وتقاليد التحقيقات والتحريات الاجتماعية.
  •  غياب تقاليد التعامل مع المحققين، وأحياناً الخوف منهم والتشكيك في نوايهم.
  •  إخفاء  الحقيقة نتيجة الريب والخوف، وأحينا اللجوء للكذب لتضليل المحققين.

            ويمكن حصر أهم جوانب الدراسة الأمبريقية فيما يلي:

أولاً- الأبحاث الأمبريقية التي يشار إليها في الأدبيات الأنجلوسكسونية عادة بأبحاث الجمهور(Audience Research)، ترتكز بالأساس على العمل الميداني (fieldwork)، أي جمع المعطيات والبيانات والمعلومات المتعلقة بحجم الجمهور وبنيته الديموغرافية والمهنية والسوسيو- ثقافية وأنماط التفاعل مع الرسائل الإعلامية.

وبتأثير من نفس العوامل السياسية والاقتصادية التي أدت إلى ازدهار دراسات الجمهور النظرية، وتطور الأبحاث الميدانية في اتجاه تبسيطي مضر أحيانا بالنزاهة والجدية والصرامة العلمية.

 ولكن هذا الاتجاه التبسيطي يبدو مجديا اقتصاديا وسياسيا، حيث ازدهرت اقتصاديات أبحاث الجمهور، خاصة سبر الآراء والدراسات التسويقية حتى أصبحت مجالا واسعا للتنافس بين أطراف عديدة منها الحكام والسياسيين والمعلنين والتجار ومكاتب الدراسات ومصنعي أجهزة القياس الإليكترونية. 

كما تتسابق صناعات تقنيات سبر الآراء على تطوير الآلات الأوتوماتيكية والإليكترونية (Audiomètre, People Meter) تحولت من القياس الكمي الذي يقتصر على متابعة حالة أجهزة الاستقبال الإذاعي والتلفزيوني ونسخ سحب الجرائد والمجلات ومقاعد دور السينما والمسارح، إلى قفزة نوعية تحصي وتفرز الأشخاص الذين يشاهدون ويستمعون ويقرءون ويتفرجون على عرض درامي أو يبحرون افتراضيا عبر المواقع الإليكترونية.

تتم عمليات الإحصاء والفرز والتصنيف بسرعة فائقة بفضل المعلوماتية التي تـطور يوميا أدوات الإحصاء وبرمجيات المعالجة الإليكترونية والتحكم عن بعد والبريد الإليكتروني وأنظمة الرسائل القصيرة للهاتف الرقمي والتيليماتيك وغيرها من التقنيات المتطورة بسرعة مذهلة تصعب متابعتها ورصد انعكاسات بنفس السرعة.

ثانياً- أساليب الأبحاث الأمبريقية الشائعة هي أخذ عينة تمثيلية للجمهور المراد بحثه وقياس حجمه وكيفية تشكيله وأنماط استجاباته للرسائل الإعلامية، إلى جانب قياس فئات العينة: السن، والجنس، والمستوى التعليمي، والوضع الاجتماعي أو مستوى الدخل، والمهنة، والدور الاجتماعي، ومكان الإقامة. 

تأخذ بعين الاعتبار الخصائص السيكولوجية والسوسيولوجية والسياقات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي يجري فيها التفاعل بين الجمهور والرسائل الإعلامية. 


وهناك ثلاثة أساليب تستعمل على نطاق واسع في دراسة جمهور أي وسيلة إعلامية:

1/ أسلوب البحث التجريبي (Experimental)، ويستعمل خاصة في عملية الكشف عن الخصائص السيكولوجية والاجتماعية والتفاعل الاجتماعي وتأثير السياقات المتنوعة في استجابة الجمهور للرسائل الإعلامية.

2/ أسلوب المسح (Survey Method)، ويقوم أساسا على الاستجوابات والاستمارات لتحديد فئات الجمهور على أساس الجنس والسن ومستوى التعليم والوظيفة والمواقف والآراء...

3/ أسلوب دراسة الحالة (Case Study)، ويستخدم الملاحظة ومتابعة الحالة المدروسة لفترة زمنية معينة، والمقابلة الجماعية أو الفردية والوثائق. وهو أسلوب لبحث ظاهرة معينة في فضاء معين، لكن نتائجها غير قابلة للتعميم.

ثالثاً - مؤسسات أبحاث الجمهور: ظهرت أبحاث الجمهور الميدانية مع ظهور وسائل الإعلام الإليكترونية (الإذاعة في العشرينيات والتلفزيون في الخمسينيات) في كل من المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، ثم تلتها فرنسا بعد إدخال الإشهار التجاري في التلفزيون سنة 1968. 

ولم تعرف هذه الأبحاث أية انطلاقة جدية في الجزائر بعد أكثر من أربعة عقود من الاستقلال، كما هو الشأن في البلدان المشابهة لها في الظروف الديموغرافية والسياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية. 

وقد يرجع ذلك إلى جملة من العوامل منها على وجه الخصوص:

غير أن إقبال الجزائر على الاندماج في الاقتصاد المعولم وتعدد وسائل الإعلام الإليكترونية التي يتعرض لها الجمهور الجزائري، أصبح يشكل مؤشرات جديرة بالاعتبار عند الحديث عن مستقبل أبحاث الجمهور في الجزائر.


 

 ورغم ذلك فهناك محاولات ذات أهمية قام بها جيل جديد من الباحثين في قسم علوم الإعلام والاتصال بجامعة الجزائر خلال العقد الأخير (1995-2006) تمثلت خاصة في مناقشة 144 أطروحة ماجيستر ودكتوراه دولة في مختلف مجالات الدراسات الإعلامية، منها 30 دراسة تعالج بصفة مباشرة أو غير مباشرة مختلف مظاهر الجمهور قام بها أساتذة و/أو طلبة في إطار واجبات بيداغوجية بهدف الحصول على درجة علمية أو ترقية مهنية، يمكن أن تشكل منطلقات لأبحاث الجمهور في سياق الآفاق التي تميز التوجه الاجتماعي-السياسي العام.



وعموما، هناك ثلاثة أنواع من المؤسسات التي تقوم بأبحاث الجمهور لأهداف تجارية و/أو سياسية و/أو علمية.

1/ وسائل الإعلام

تنجز المؤسسات الإعلامية دوريا أبحاثا لمعرفة جمهورها في محاولة لتلبية رغباته وإشباع حاجاته للإعلام والتثقيف والتسلية والترفية، والتي تختلف من جمهور إلى آخر، وخاصة لزيادة مبيعاتها ومدا خيلها من الإشهار الذي يشكل عموما النسبة الأعظم في تمويل وسائل الإعلام التجارية. وتتوفر المؤسسات الإعلامية الجدية الكبرى والصغرى على دوائر وأحيانا مراكز متخصصة، مهمتها متابعة التغيرات التي تطرأ على حجم الجمهور وحاجاته ومواقفه من نشاطات المؤسسة. وتكاد لا تخلو أية مؤسسة جدية من مصلحة تهتم بمتابعة حالة الجمهور متابعة دورية منتظمة لا تتجاوز أسبوعا بالنسبة لمجموع البرامج ويوميا بالنسبة لبعض الأنواع من البرامج.

2/ مكاتب دراسات

تنجز دراسات مسحية عند الطلب لجهات تجارية في المجتمعات التنافسية، حيث تشكل هذه الدراسات سوقا اقتصادية وإعلامية مزدهرة.


           

     أصبحت الأنتيرنيت في زمن قصير نسبيا أداة ضرورية، لا غنى عنها في البلدان ما بعد الصناعية وتأخذ تدرجيا مكانة متزايدة الأهمية ضمن قائمة الانشغالات في البلدان الانتقالية، مشكلة في كلا الحالتين ملامح مجتمع متمايز يطلق عليه المجتمع الإليكتروني(e-Society) في عالم مشبك (Networked up World) عموده الفقري شبكة الشبكات، الأنتيرنيت.   


    كانت صورة عالم الأنتيرنيت في منتصف شهر جوان من هذه السنة 2005 تتشكل من الملامح التالية: مليار شخص موصل بالشبكة العنكبوتية، أي حوالي خمس سكان المعمورة، وبلغت معاملات التجارة الإليكترونية عبر الشبكة 150 مليار دولار أمريكي وأدخلت تغييرات جذرية في مجالات التربية والتعليم والصحة والإدارة وميادين نشاطات أخرى، كما أنها ساعدت على انتشار المراهقة السايبرية من مثل الغش والتدليس وألعاب القمار وانتحال الهويات وابتزاز الأطفال ونشر الصور الخليعة وممارسة الشبقية الافتراضية...


      وقد أثار هذا الوضع مسألة حكم الأنتيرنيت وتم وضعه في مقدمة الانشغالات من أجل تجنب، أو على الأقل، الحد من أخطار تجزئة الأنتيرنيت والحفاظ على الملاءمة وقابلية التشغيل المشترك بين الأنظمة الإليكترونية، وحفظ الحقوق وتحديد مسؤوليات مختلف المتعاملين وحماية المستخدمين النهائيين من التعسف وتشجيع كل مبادرة جديدة من شأنها أن تسهم في الترقية التكنولوجية. 


        وقد لوحظ تباين شاسع بين تطور استعمال المستحدثات التكنولوجية وبين التكفل بالقضايا القانونية والانعكاسات الاجتماعية والثقافية والأخلاقية مما استوجب الشروع في مفاوضات دولية تحت إشراف هيئة الأمم المتحدة جمعت الأطراف الأكثر تأثيرا في ترقية الأنتيرنيت مستقبلا للبحث عن أحسن وأنجع السياسات الواجب اعتمادها في مجال الربط والتجارة والمحتوى والتمويل والأمن ومسائل أخرى ضرورية لمجتمع المعلومات المتنامي.


     في هذا السياق، شكل المؤتمر الأول حول مجتمع المعلومات (WSIS=World Summit on Information Society) المنعقد في جنيف بسويسرا في بداية ديسمبر2003 شكل فريق عمل كلف بإعداد أرضية لعملية مفتوحة وغير حصرية تضمن المشاركة الكلية والكاملة للسلطات العمومية والقطاع الخاص والمجتمع المدني في البلدان المتطورة كما في البلدان الانتقالية. 

وقد قدمت الخلاصات التي توصل إليها فريق العمل للمؤتمر الثاني المنعقد في تونس منتصف نوفمبر المنصرم.   


    غير أنه لوحظ أن المشاركة الواسعة التي أريد لها أن تضمن انخراط الفاعلين الأكثر تأثيرا في هذه الصيرورة أدت محاولات تحريف هذا المنبر الدولي عن أهدافه الابتدائية واستعماله لأهداف سياسية وأيديولوجية سواء من قبل حكام البلدان النامية أو ممثلي التيارات الفكرية خاصة تلك التيارات المعادية لمسار العولمة.


     لم تتمكن المفاوضات من التوصل بعد إلى صياغة مقبولة من قبل الجميع لمفهوم حكم الأنتيرنيت، حيث يولي السياسيون أهمية قصوى لوسائل الإعلام والقضايا التي تكسبهم نقاطا إيجابية تجاه متعامليهم بالدرجة الأولى وبدرجة أقل تجاه مواطنيهم (مشروع حاسوب لكل أسرة بصرف عن دوره في مجتمع أمي ليس إليكترونيا وحسب ولكن تقليديا أيضا وبخاصة). 

ويركز الدبلوماسيون على حماية مصالح أنظمتهم السياسية، في حين يهتم خبراء الاتصالات السلكية واللاسلكية بتنمية البنيات التحية والتقنية الضرورية لتوسيع المجتمع الإعلامي، وبخاصة شبكات الهاتف الثابت التي تتوفر لنسب ضئيلة من المواطنين في البلدان الانتقالية ( أقل من 10 في المائة في الجزائر). 

ويلح المناضلون على حقوق الإنسان من مثل حرية التعبير واحترام الحياة الخاصة والحقوق الأساسية الأخرى ويرى خبراء الاتصال ضرورة تبسيط الاتصالات وجعلها في متناول الأفراد العاديين.

  ومهما يكن من أمر، فإن الأرضية التي توصل إليها فريق العمل الأممي وضعت مشروع مفهوم عملي ينص على أنه   "ينبغي أن يعني حم الأنتيرنيت صياغة وتطبيق مبادئ ومعايير وقواعد وإجراءات اتخاذ القرارات ووضع البرامج المشتركة الخاصة بتنميط تطور استعمال الأنتيرنيت من قبل الدول والقطاع الخاص والمجتمع المدني، كل فيما يخصه".                    

 

     لا يقتصر استعمال تطبيقات تكنولوجيات الإعلام والاتصال المتجددة على التجارة والمعاملات المالية والتعليم والبحوث... والتسلية والترفيه، وحسب ولكنه غزا جل مناحي حياة البشر اليومية العامة والخاصة. وتنعكس هذه الهيمنة التكنولوجية الشاملة على حياة الإنسان يشكل أكثر وضوحا في لغة العولمة المستمدة أصلا من اللغة الإنجليزية، حيث يلحق ببداية أي كلمة إنجليزية رمز(e-) الدال على الإليكترون للإشارة إلى الغزو التكنولوجي للميدان الدالة عليه الكلمة.

 ومن بين هذه الأشكال التعبيرية المعولمة (e-Stories) التي تعني القصص أو الروايات الإليكترونية قياسا على البريد والصحافة والتسوق والجامعة والحكم والتعليم والجراحة الطبية والشعر والحب والزواج...الملحق بها الرمز الدال على التكنولوجيات الخلوية (Digital).

     والواقع أن هذه المصطلحات الجديدة التي أثرت اللغة الإنجليزية ثراء لم يسبق له مثيل عبر تاريخ المجتمعات المستعملة لها رغم عظمة الوقائع والأحداث والتطورات النظرية والفكرية التي عرفتها تلك المجتمعات، ليست فقط تعبيرا على تغيرات شكلية لتكييف اللغة مع مستجدات المحيط المادي وغير المادي من حولها، ولكنها تعبيرا على التغييرات العميقة التي تعمل التكنولوجيات الجديدة على إدخالها على المفاهيم والمضامين التي دأب الناس عليها من خلال الاستعمال اللغوي والاصطلاحي للكلمات.


    مصطلح الرواية الإليكترونية يعني في الاستعمال التكنولوجي من بين ما يعني أن يتولى الإليكترون شكلا مهام عولمة الرواية أو القصة، بصرف النظر عن محتواها، أي تشبيكها (Networking) وتوفيرها على الخط بكيفية غير منقطعة زمنيا بحيث تعطي للمتلقي الحرية المطلقة في التعرض لها في الوقت الذي يريد وتحرره من القيود المكانية والسياسية التي تفرضها الجغرافيا والرقابة السلطوية والاجتماعية. وهذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن تدخل الإليكترون يؤسس لشكل جديد من العلاقة المباشرة بين المرسل والمتلقي ويضفي على هذا الأخير صفة التواجد الكلي في أي حيز جغرافي في فضاء هذا العالم المشبك(Networked up World ). 


ونادرا ما يوجد نشاط إنساني في منأى عن تدخل الإليكترون في المجتمعات الإليكترونية، حيث أن إبحارا بسيطا عبر أي محرك بحث يكشف عن مدى تغلغل التكنولوجيات العالية الجودة(High Tech) في حياة الإنسان. ففي مجال الرواية الإليكترونية، على سبيل المثال، يحيلك محرك غوغل.كوم (Googele.com) على مئات الآلاف من الصفحات الإليكترونية التي تعالج أو تعرض نصوصا روائية أو دراسات أو أخبارا  متعلقة بالموضوع، من مختلف دول العالم المشبك وبمختلف اللغات. ففي اللغات المكتوبة بالحرف اللاتيني يوفر هذا المحرك حاليا موقعا خاصا يحمل عنوان الرواية الإليكترونية (e-Stories.org) يتضمن ملخصات لأكثر من خمس عشر ألف نصا روائيا لكتاب من أكثر من أربعين دولة ليس بينها من الدول العربية سوى تونس والمغرب.

أما  في اللغة العربية فيحيل محرك البحث هذا حاليا على 3.670 نصا يتضمن صفة الإليكترونية التي تلحق بكل نص معروض على الخط باللغة العربية أغلبها إسلاميات، في حين أن نفس المحرك يحيلك على 13.900  حكاية تتضمن وطار الروائي والقاص الجزائري المعولم أكثر من خمس أضعاف العرض الإليكتروني الروائي العربي قاطبة ، بالإضافة إلى ملخصات وترجمات للإنتاج الروائي لصاحب اللاز و الولي الصالح .

  والواقع أن تطبيقات تكنولوجيات الإعلام في مجال الرواية والشعر وسائر الإنتاجيات غير الخيالية لازال يغلب عليها جانب التوزيع عن طريق المواقع الإليكترونية الخاصة بالكتاب والمؤلفين ومواقع دور نشرهم والمواقع المتخصصة إلى جانب الأشرطة المضغوطة، ولم يسيطر الإليكترون بعد على جميع الفضاءات المادية وغير المادية التي خلفتها تقنية الطباعة الغوتنبرغية خلال القرون الستة الماضية. غير أن الطفرة النوعية التي حققتها هذه التكنولوجيات في فترات زمنية متناهية في الصغر لا تنبئ بعمر مديد لأمجاد غوتنبرغ خارج المتاحف... المتاحف الإليكترونية بالذات.               

      جرت العادة في المجتمعات العريقة في ممارسة السلطة عن جدارة واستحقاق، أن يعكف رؤساء الدول السابقين، بعد تفرغهم من الحكم لسبب من الأسباب، على كتابة مذكراتهم الشخصية وتجاربهم الخاصة، ليستفيد منها أو يتعظ بها غيرهم من الرؤساء اللاحقين.

 

  غير أن هذه العادة تعتبر في المجتمعات الهامشية عديمة الجدوى وغالبا عادة سيئة وتقليد عقيم لما قد تتسبب فيه هذه الكتابة من كشف ل"أسرار السرايا" أو على الأقل إحراج للرئيس أو لخلفه أو ربما- وهو الغالب الأرجح- لعجز نتيجة للقيمة التي اكتسبتها الأمية في هذا الزمن السياسي الرديء و التي لا تتنافى مع شروط تولي السلطة، وتتوافق تماما مع سلطة المال والجاه.

 

  وجرت العادة أيضا في الأنظمة الشمولية الرائدة والتابعة على حد سواء، أن تعتبر الحياة الشخصية والأحوال المالية والسياسية حتى لفترة ما بعد الحكم لرؤساء الدول والمسئولين الكبار من "الأسرار" المرتبطة بأمن الدولة. ونتيجة لذلك تحاط حياتهم بسرية تامة ويعتبر التطرق إليها، وأحيانا مجرد التلميح لها، من أخطر الجرائم المعاقب عليها بأشد العقوبات. ولذلك، فإن الصحافة عامة لا تتجرأ على التقرب منها إلا في حالة الإقدام على "الانتحار"، أو التورط في تصفية حسابات بين أجنحة الحكم المتصارعة. والحال أن "الإقدام على الانتحار الصحفي" نادرا ما يحدث ولو في سبيل حرية الصحافة التي تعطى أيضا ولا تؤخذ.

 

   غير أن الأمر يختلف في بلدان الديموقراطية الغربية وحتى في بلدان الاتحاد السوفييتي الراحل، حيث "تطارد" الصحافة رؤساء الدول في كل مكان وتحاول الكشف عن أسرار حياتهم الشخصية بعد الانتهاء من مأموريتهم العمومية. وبلغت "الجرأة" الصحافية درجة المطالبة بالحد من الامتيازات الممنوحة قانونا لرؤساء الدول السابقين والمسئولين المدنيين والعسكريين الكبار مقابل توليهم دواليب الحكم.

 

 في الولايات المتحدة الأمريكية التي أصبحت بفضل قوتها التكنولوجية والعلمية والاقتصادية والعسكرية، المثل الذي يحتذي والهدف البعيد المنال، إن لم يكن مستحيل المنال، يواصل الرؤساء السابقين (وما أكثر بفضل الدستور الذي لا يجيز أكثر من عهدتين رئاسيتين) الاستفادة من منحة المعاش التي تتجاوز 100 ألف دولار سنويا إلى جانب تعويضات المكتب والنقل والخدم والتي تتجاوز 200 ألف دولار سنويا ولكل رئيس دولة سابق. ومع ذلك يواصلون استثمار مكانتهم وشهرتهم في أعمال ذات طابع سياسي أو ثقافي أو خيري إنساني... ولن يدر ربحا.


 وقد ذهبت الصحافة الأمريكية إلى حد المطالبة بتعديل القانون الخاص بهم  طالما أنهم يقومون بأعمال تحقق أرباحا خيالية، ونجاح أعمالهم هذه يتوقف إلى حد بعيد على المكانة التي اكتسبوها بفضل توليهم السلطة وليس نتيجة لقدراتهم وكفاءاتهم الشخصية.


 فقد أوضحت صحيفة " نيويورك تايمز" في مقال وقعه المعلق الصحفي "وليام مفاير" في أحد أعدادها، أن الرئيس الأسبق، ريغان، على سبيل المثال، اتفق مع "فريق اتصال" ياباني على حضور مهرجان لهذا الفريق وإلقاء محاضرتين مقابل مبلغ مالي قدره مليونين من الدولارات. ويفوق هذا المبلغ ما تلقاه الرئيس ريغان خلال 8 سنوات من البيت الأبيض ب 400 ألف دولار. 


غير أن الصفقات المربحة لذلك الرجل السياسي المشهور بالكوباوية كانت تبدو على طرفي نقيض مع ما يقوم به رئيس أمريكي سابق آخر، جيمي كارتر حيث انه منذ مغادرته البيت البيض سنة 1981 نذر نفسه للشؤون الدولية وقضايا الديموقراطية وحقوق الإنسان في العالم. ويتطلب مقر لإقامته في أطلنطا 16 مليون دولار سنويا لعدد من القضايا الممتدة من برامج الفلاحة في غانا إلى ملقيات ولقاءات للبحث عن حلول للنزاعات الجهوية في إفريقيا خاصة. ويشاع عنه أنه أشرف على بناء مساكن للفقراء في أماكن عديدة من العالم. وعلى الرغم من أنه لا يبدو مهتما كثيرا بالمال قدر اهتمامه بالدبلوماسية، فإن أصدقاء له يؤكدون أنه قبل مبالغ مالية هامة مقابل سلسلة من الحاضرات في اليابان، لم يتسن للصحافة التأكد من حجمها. ومع ذلك، يبقى ارتباط كارتر بالمال لا يساوي شيئا مقارنة بما جناه ريغان بصفته رئيسا لأعظم دولة في عالم اليوم.

 

 وحسب أمين الصحافة للرئيس السابق جيرالد فورد، فإن هذا الأخير كان قد تفاوض مرة مع 8 شركات تمتلك محطات للراديو وأسهم في عدد من المقاولات العقارية لإلقاء محاضرات مقابل 15 ألف دولار لكل واحدة، وفي السنوات الأخيرة من حياته بدأ يتردد على الجامعات لعقد ملتقيات حول السياسة الخارجية وقضايا التسلح، وحسب مصادر لم تتأكد الصحافة من هويتها فإن فورد كان يتقاضى ما بين 500 و 750 ألف دولار سنويا مقابل نشاطات الإضافية.

 

  وبخصوص الراحل نيكسون، فإن الصحافة لم تتمكن من إعطاء تفاصيل عن أوضاعه المالية ونشاطاته ما بعد الرئاسية على الرغم من أنها وراء سقوط "عرشه" على إثر نشر فضيحة" ووترغايت" إلا أن صحيفة "واشنطن بوست" تؤكد أن حياة نيكسون ما بعد الرئاسية بعيدة عن العتاب حيث أنه تفرغ لقضايا لاصلة لها بالدولار وأنه كان يكفر عن ذنوبه أثناء فترة الرئاسية.

 

   هذه بعض النماذج للكيفية التي تتعامل بها الصحافة وخاصة الأمريكية مع رجال السياسة والمال، ولم يتجرأ يوما واحد منهم أن يحاول مجرد المحاولة الحد من حريتها، فحتى مؤسسة الكونغرس لا يسمح لها الدستور بسن قانون يحد من حرية الصحافة... والحال أن الدستور الأمريكي فوق الجميع... الرجال والمؤسسات عند ما يتعلق الأمر بأمريكا وبالأمريكيين.

 

   بهذه الكيفية أيضا تحاول من حين لآخر أن تتعامل الصحافة مع رجالات السياسة في بلدان العالم الانتقالي الذين تفشل أجهزة "الأمن والوقاية" الخاصة في التستر عنهم للغباوة أحيانا وتحت تأثير الغيرة والحسد وحب الانتقام وتصفية حسابات في الكثير من الأحيان. وغالبا تلجأ رجالات السياسة في هذا العالم "المتدمقرط" إلى تقديم تبريرات واهية لرأي عام مغفل عموما: تكذيب وتساءل عن خلفيات " التشويه" وإدراجه ضمن محاولات زعزعة النظام واستقرار الدولة والاعتداء على "السيادة" الوطنية بتشويه صورة زمر هذه السيادة.

 

وعلى الرغم من هامش الحرية التي تتمتع به الصحافة المكتوبة في الجزائر منذ أن تخلت الدولة والحزب عن احتكار هما لها في بداية تسعينات القرن الماضي ورغم المحاولات المحتشمة، والتي قد لا تخرج عن التلاعب بالصحافة و "تصفية حسابات الزمر المؤثرة"، فإن تفاصيل حياة الرؤساء السابقين، بما فيها مرتباتهم، لازال يكتنفها الغموض، كما كانت وهم عاملون. 4 رؤساء سابقين: أحمد بن بلة، الشاذلي بن جديد، اليمين زروال وإلى حد ما على كاف، الوحيد الذي كتب مذكراته بمساعدة "نساخين"، لازالوا يتعاشون على أرض الجزائر، وهو أمر نادر في البلدان الهامشية والعربية خاصة. ولكن حياة هؤلاء الأشخاص الذين لازالت بصدماتهم بادية على الجزائر والجزائريين، ونشاطاتهم لازالت محرمة على الصحافة، أي على الجزائريين، ومدرجة ضمن "أسرار الدولة"، كما هي محرمة على الصحافة نشاطات كل المسئولين العسكريين والمدنيين الذين تحول العديد منهم إلى رجال الأعمال والمال، إلا ما ندر من الذين غضبت الزمر الفاعلة في دواليب الحكم.

     ليس من السهولة بمكان أن يكتب المرء في يسر عن موضوع ذي طبيعة وأبعاد فلسفية بالدرجة الأولى، مثل موضوع "النخبوية" من منظور ثقافي إليكتروني على غرار جل المفاهيم المعولمة التي أثراها تدخل الإليكترون أو عدلها أو ببساطة أحالها على المتحف الدلالي واللغوي.

فالنخبة الإليكترونية (e-Elite) تعني عولميا، إعادة إنتاج النصوص ميكانيكيا، أو الأداة التي تسمح بقراءة الكتب على الشاشة، الأمر الذي يعطي للمفهوم مدلولا تقنيا خالصا، انسجاما مع المآل الذي ينتظر المفهوم التقليدي للنخبوية كنظام يفضل ويحمي مزايا ومصالح النخب على حساب أعضاء المجتمع الآخرين، أي المفاضلة بين الناس على أساس من الانتماء الاجتماعي والثروة المادية وامتلاك السلطة مهما كانت طبيعتها. 

    إن انتشار التعليم وسيادة المعرفة وتوسيع مجال استعمال المعلوماتية والاتصال، أي جعل الثقافة الإليكترونية ذات طابع جماهيري، أدى إلى بروز طبقات وسطي واسعة وممتدة في الزمان والمكان مؤهلة لإنشاء شبكات من البنيات الأساسية للتنظيم السياسي/الاقتصادي والاجتماعي/الثقافي لمجتمعات ما بعد الحداثة.

    هذه المجتمعات القادرة على المبادرة والتي يتولى الإليكترون، تحت قيادة وتوجيه الإنسان طبعا، مهمة الإشراف على تحولها وتحركها باتجاه أهداف المجتمع وأولياته واحتياجاته الأساسية بدلا من دور النخب التقليدية والأحزاب السياسية والمنظمات الكلاسيكية.

    فالاتحاد الأوروبي للنقابات العمالية على سبيل المثال كان أهم شبكة عالمية تواجه مؤتمرات دافوس ومنظمة التجارة العالمية، وهم يضم عشرات الملايين من الأعضاء متواجدين في أمان مختلفة كانوا يتحركون بفعل الإنترنت والهواتف المحمولة والفضائيات كما لو كانوا منظمة صغيرة محصورة في رقعة جغرافية محددة المعالم. و"الأممية الفلاحية" تضم حوالي خمسين مليون عضو من اتحادات وجمعيات المزارعين حول العالم، كانوا يتحركون معا لمواجهة منظمة التجارة العالمية والشركات العملاقة والسلطات المتحالفة معها لتنفيذ سياسات تضر بصغار المزارعين وبإنتاجهم.

     إن هذا المجتمع الحيوي، القوي والفاعل المنشود الذي تنسق حراكه طبقة وسطي ممتدة ومبادرة لا نخب سياسية أو مثقفة متداعية، معزولة وآيلة للانقراض أنشأتها ظروف واعتبارات فكرية وسياسية لم يعد وجودها مبررا من حيث تقسيم المجتمع إلى نخب متميزة عن بقية الشعوب، إلى خاصة الناس وعامتهم. فالمجتمع المدني بمفهومه الإليكتروني هو القادر على التعامل الصحيح مع العولمة وتغير مفهوم ودور الدولة فيه.

 

    قد تعود الأزمات القائمة اليوم بين المجتمعات والسلطات، خاصة في الدول الانتقالية من مثل الجزائر، إلى أن الحكومات والنخب المتحالفة معها لازالت تتجاهل دور المجتمعات المدنية والطبقات الوسطى التي أضعفتها التحولات السياسية والاقتصادية السابقة. كما أن انتفاضة المجتمعات في بلدان عدة قد تعبر عن الهواجس والتفكير بالاقتراب من مشروعات وطنية اجتماعية تعيد تنظيم المجتمعات على أساس حماية مصالحها، وتؤسس لثقافة مجتمعية تعكس الاحتياجات الحقيقية لأفراد المجتمع.

    إن التحولات والتغيرات الكبرى، القائمة على أساس المعرفة والمعلوماتية والاتصالات، تعطي المجتمعات المدنية والطبقات الوسطى تحديدا فرصا جديدة، تجعلها قادرة على التحرك وفرض إرادتها بفضل قدراتها على التفاعل مع التنظيم الإليكتروني للمجتمعات ومؤهلاتها الاتصالية التي تجعلها أكثر قدرة وأكبر سرعة لحماية مصالحها من عبثية النخب ومزاجية الأحزاب الحاكمة والمعارضة.

     وقد بدأت عموما تتواجد أدوات جديدة لفهم المجتمعات، واستقرارها، وتسييرها، تختلف عن روح السيطرة والتفاهم مع النخب والقيادات السياسية والاجتماعية ورشوتها. فالمعرفة المتاحة، والشبكية الإعلامية والمجتمعية والاقتصادية الناشئة تغير كل شيء في حياة وعلاقات الناس والمجتمعات والدول.

 


يسود شبه إجماع في أوساط النخب السياسية والمالية والثقافية في المجتمعات الهامشية والتيارات الأيديولوجية المناصرة لأطروحتها في المجتمعات المحورية، يجرم العولمة كحتمية تاريخية ويحذر من أخطار انعكاساتها على السياسة والاقتصاد والهوية الثقافة والحضارية وعلى جميع مناحي الحياة بهذه المجتمعات المقبلة على استهلاك منتجات العولمة بنهم وشراسة.

يطلق القادة السياسيون والموالون لهم في المجتمعات المدنية، في كل مناسبة وبغير مناسبة، صفارات الإنذار المدوية والمحذرة من الأخطار المحدقة بمجتمعاتهم جراء تدفق المعلومات والسلع والخدمات والقيم الثقافية للأمم المنتجة عبر الطرق السريعة للعولمة، ويلصقون بمصادر هذه التدفقات جميع أنصاف التهم القانونية والدينية والأخلاقية.

يبدو أن الخطابات المناوئة للعولمة تعيد إنتاج وتسويق المضامين الإيديولوجية الشيوعية المعادية "للإمبريالية" العالمية و"الرجعية" الداخلية المتحالفة معها، حتى يخيل للمرء أن من ينتج العلم والمعرفة والقيم الحقوقية الإنسانية ويسوق المواد الغذائية والملابس وجميع أسباب الراحة بأسعار منخفضة في متناول أغلبية الناس، هم"شياطين" غربية متربصة بالبشرية الضعيفة، وأن من ينتج الأوهام ويوزع الوعود والأحلام، ويعمل على تجويع الناس واستعبادهم وتهجيرهم عبر الصحاري القاحلة والمحيطات المظلمة ويوفر لهم جميع أسباب الجحيم على الأرض... هم "ملائكة" سيشفعون للمطيعين منهم بدخول الجنة في السماء!!!

   قد يكون هذا النمط من التفكير غير المتحرر، أحيانا عفويا ناجما عن سذاجة أو غفلة، ولكنه لا يبرر هذه النظرة التشاؤمية الشاملة للعولمة وكأنها الشر كله، في حين أنها في حد ذاتها الخير كله. جوانبها المظلمة تكمن في النيات المعلنة والمتسترة للمتحكمين في زمام أمورها، والذين يعملون على تحقيق أهدافهم الاستراتيجية التي قادت منذ عقود إلى توفير أسبات هذه العولمة والشروع في تجسيدها ميدانيا. ليست تلك الأهداف دائما في انسجام مع ما تطمع إليه النخب النافذة في الطرف الآخر، بل هي غالبا في تناقض معها، ولكنها ليست بالضرورة لا غية لمصالح عامة الناس في هذا الطرف الآخر، مقارنة بالتباين الصارخ بين مصالح الحكام المحكومين في البلدان الهامشية.

تعمل هذه الخطابات التحذيرية على خلق وترسيخ ارتباك عام وتوجس من"الفيروسات" المتسللة عبر برامج الفضائيات ومواقع الواب وصناديق البريد الإليكتروني وأنظمة الرسائل القصيرة لشبكات الهواتف الخلوية، وغيرها من الطرقات الافتراضية السريعة التي أنشأتها العولمة، وتركز بصفة خاصة على قوتها البالغة السحرية في إلغاء خصوصيات الهوية المحلية لحساب ثقافة العولمة الجارفة.

 صحيح أن قيم ثقافة العولمة قوية بقوة المنتجين والمشرفين على تعميمها، ولكن الدعوة إلى مقاومتها تبدو غير مجدية وخاصة غير مفيدة، طالما أن قدرة الجذب أقوى من قوة التنافر، خاصة وأنها لا تفرض بقوة السلاح، كما كان الشأن مع الغزوات الاستعمارية، ولكن بقوة العلم والتكنولوجيا. حيث تسود سلطة العلم والمعرفة تنتفي علة المقاومة وتحل محلها التزامات التكييف والملاءمة والتعايش بين القيم والاعتراف المتبادل، ويمكن بالتالي للهويات المحلية أن تتعولم وتعرف بفضائلها ومحاسنها التي يمكنها بقوتها الإنسانية أن تعوض سيئات ثقافة العولمة اللا إنسانية.

   إن الهوية الثقافية لجماعة محلية أو شعب أو أمة من الأمم، في سياق الجغرافيا الثقافية في علاقاتها مع قضايا العولمة، هي السمات الثابتة الجوهرية المشترك بين عامة الناس، التي تميز انتمائهم الحضاري عن غيره من الانتماءات الأخرى، والعولمة، كصيرورة ونمط معيشي معلن للملإ، من شأنها أن تؤدي إلي مزيد من الوعي بالخصوصية الثقافية والحضارية للشعوب، وإن كان ذلك يخيف المؤمنين بصراع الحضارات الذين يلبسون صراع مصالح النخب النافذة رداء حضاريا لكسب ود الشعوب وتأييدها.

 ثقافة العولمة التي يعتبروها غازية ولاغية للثقافات المحلية والوطنية لا يمكن فهمها إلا من خلال مفهوم هذه الأخيرة التي تتكون من جميع أساليب وأنماط السلوك والأفكار والرموز والفنون التي تتوفر لشعب معين في بقعة جغرافية معينة. أما حيث الفراغ الذي يصعب تصوره في هذه الحقبة من تاريخ البشرية، فإن ثقافة العولمة تتجاوز الثقافات الوطنية وتتخطى الحدود الجغرافية والسياسية وتنتشر من خلال قنوات تدفق السلع والأفراد والمعلومات والمعرفة والصور.

يتضمنها غالبا خطاب تقني وعملي وتتحرك في جميع الاتجاهات عبر وسائط الاتصال الحديثة بحسابات خلوية دقيقة، وهي في مرحلتها الأولية هذه، نخبوية رغم ميلها الدائم نحو الجمهرة، تفرض من أعلي وتفتقد لقاعدة تعبر عن حاجات محلية ولا تلتزم بأشكال ومضمون التراث الثقافي التي تنتقي ما يعززها وما يساعد على تمركز القوة التي ليست هنا سياسية وحسب، ولكنها أيضا وخاصة قوة التكنولوجيا المرتبطة بالمشروعات الصناعية ذات الصبغة الكونية كشبكات الحاسوب والإنترنات، تعمل على خلق نماذج وصيغة موحدة عبر العالم وتدعم نظام الصور الذهنية لموضوعات لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالاستهلاك الذي لا يقتصر على الأكل واللباس ولكنه يتجاوزه إلى أشكال التفاعل الفردي والجماعي مع الوسائل التكنولوجية المتجددة مثل الكمبيوتر والأنترنات ووسائل التسلية والترفيه الأخرى.

إذا كان هناك من وجه و سبيل لمقاومة هذه القدرية التكنولوجية لثقافة العولمة، فلن يكون من خلال خطب مشحونة أيديولوجيا، وإنما من خلال من التعامل الهادئ مع الظاهرة بنفس المنهجية التي أوجدتها، منهجية العلم والمعرفة، قوة "الآخر" التي تتناسب طردا مع ضعف"الأنا". 


الحكم الإلكتروني أو ما يسمى في الأدبيات المعولمة ب"e_Government" يعني في تعريفه المبسط استعمال تكنولوجيات الاتصال مثل الشبكات المحلية البرية والفضائية وشبكة الإنترنيت والحواسب الثابتة والمحمولة، وغيرها من المبتكرات التكنولوجية التي لها القدرة على تغيير طبيعة العلاقات القائمة بين المؤسسات الحكومية والمواطنين وعالم الأعمال. 

هذه التكنولوجيات يمكنها أن تقدم خدمات جليلة في مجالات مختلفة: تحسين الخدمات العمومية التي تشرف عليها الوكالات الحكومية، وترقية العلاقات التفاعلية مع عالم الأعمال والصناعة، وتأهيل المواطنين من خلال تمكينهم من الوصول إلى المعلومات، وبصفة عامة الوصول إلى إدارة حكومية أكثر فعالية. النتائج الايجابية التي يمكن بلوغها من خلال استعمال التطبيقات التكنولوجية تتمثل خاصة في تقليص الرشوة ورفع معدلات الشفافية وملاءمة أكبر ورفع المداخل وتخفيض النفقات والتكاليف.

     تتم المعاملات بين مواطن ووكالة حكومية أو تجارية عادة داخل مكتب في أوقات محددة إداريا، ولكن إدخال تكنولوجيات الاتصال يجعل هذه المعاملات تتم من خلال جهاز كمبيوتر، أو جهاز تلفزيون أو هاتف محمول في منزل أو في مكتب أوفي أي مكان آخر، وفي أي وقت، أي معاملات بدون توقف على مدار 24 ساعة في اليوم، سبعة أيام في الأسبوع.

       تقنية الحكم الإليكتروني مستمدة من آليات التجارية الإليكترونية، أي "e_Commece " التي تسمح لأطراف الأعمال بالتعامل فيما بينها بفعالية أكبر"B2B " وجعل المستهلك أقرب إلى مراكز الأعمال "B2C "، حيث ترمي توطيد العلاقة بين الحكومة والمواطن "G2C" وبين الحكومة والأعمال «G2B» وبين الوكالات الحكومية فيما بينها "G2G" وجعلها حميمة وأكثر ملاءمة وشفافة وأقل تكلفة، مما يسهم في تحقيق الرفاهية الاجتماعية بأكبر قدر ممكن وبأقل ثمن وفي أقصر وقت.

      ترتكز التجارة الإليكترونية في الوقت الراهن على أربعة محاور هي: 


1) النشر، و2) الأنشطة المشتركة، و 3) إتمام التعاملات، و4) تسليم السلع والخدمات، في حين تقتصر جهود الحكومات على نشر الخدمات على الخط. 

فقد بينت دراسة أجراها أندر سون من مركز الحكم الإليكتروني بإدانبرا بسوتلاندا، المملكة المتحدة،  وجود فرو قات واسعة بين جهود الحكومات في مجال الحكم الإليكتروني وأن أكثر الحكومات نضجا لا تبذل أكثر من 20 في المائة من قدراتها في هذا المجال. 

  ويعني ذلك تنمية الخدمات الإدارة ( e_Administration) على الخط وتحسين وعقلنة تدخلها لتوفير خدمات خلوية جديدة للمواطنين بإنشاء بوابة وطنية وبوابات المجموعات المحلية وجمعها فيما يسمى" النافذة الوحيدة" (Single Window ) لتمكين المستعملين من الحصول على الخدمات العمومية بأقل تكلفة وفي أقصر وقت.


 الحكم الإليكتروني بهذا لمعنى يعني شكلا جديدا من أشكال التنظيم السياسي والاقتصادي والاجتماعي للمجتمعات من  أجل توسيع وتعميم استعمال تقنيات التكنولوجيات الحديثة في صالح المواطنين الذين أصبح عدد متنام منهم يستفيد من الخدمات الإليكترونية في عدد متنام من المجتمعات المتقدمة  التي وضعت مخططات تنموية لتعميم استعمال التكنولوجيات الحديثة تنتهي في معظمها خلال هذه السنة، كما هو الشأن في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا والمملكة المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية.، في حين أن   المجتمعات النامية، ومنها المجتمعات المغاربية والعربية عامة بدأت مؤخرا فقط تعي أهمية التكنولوجيات الحديثة ودورها ومكانتها في إستراتيجية التنظيم السياسي/الاجتماعي في مجتمعات العولمة، وخاصة اعتبارها حجر الزاوية في أي إصلاح سياسي واقتصادي يتطلبه الانضمام للمجتمع الدولي المعولم.

دخول الجزائر في المنظمة العالمية للتجارة يترتب عنه انضمامها إلى اتفاقية تكنولوجيا الاتصال IT Agreement

انظر/محاضرات مقياس دراسات جمهور وسائل الإعلام


المصدر/ الاتجاه الامبريقي في دراسات الجمهور، محاضرات تخصص اتصال وعلاقات عامة وسبر آراء، علي قسايسية.

 



تعليقات

التنقل السريع