القائمة الرئيسية

الصفحات

عن الحتمية القيمية بقلم عزي عبد الرحمن

 

عن الحتمية القيمية، ونظرية المعرفة، وإدوارد السعيد، وجاك دريدا و"أسلمة المعرفة" وقضايا شتى

 

وددت في البداية أن أشكر الأساتذة و المهتمين وأخص بالذكر الذين علقوا على الحوار الذي أجراه د. السعيد بومعيزة معي حول انشغالات أكاديمية ومعرفية شتى، و الحاصل أنني لم أتوقع ردودا تذكر على إعتبار أن "المتلقي" عندنا وعلى ما يذهب إليه الكثير قليل القراءة، وإن فعل  لم يساهم ظنا  بأن إسهامه ربما لن يكون له أثر فيتجاهل المسألة ويعفي نفسه من مسؤولية ما قرأ وما لم يقرأ.

 

أما وأن تأتي إسهامات متميزة على النحو الوارد حول الحوار فذلك أمر ملفت ومقدر حق قدره والحاصل أن الفضل في إثارة تلك القضايا يعود إلى د. السعيد بومعيزة الذي يطرح الأسئلة المباشرة انطلاقا من البيئة الأكاديمية والمهنية "الواقعية" في المجال على الرغم من أنه يحتج علي في شأن الصعوبات التي تتخلل "الكتابات" و "المحاولات" التي أقوم بها في المجال باستمرار.

 

فله وللمعلقين كل الشكر والاحترام، وقد وددت بهذه المناسبة أن أسهم في هذا النقاش خاصة وأن  د. الصادق الحمامي، الأستاذ القدير ومؤسس هذه البوابة، قد ألح على ذلك - وأسرد بعض الإضافات لعلها تفيد في التطرق إلى قضايا شائكة يصعب الإلمام بها إلا بتوفيق من الله و عون من المتلقي ومشاركة من يملك المزيد من الزاد في الموضوع.

 

أما المسائل التي تخرج عن مجالي أو التي لا أعرفها أو لم أنشغل بها  فلم أعلق عليها بطبيعة الحال وقد إرتأيت أن أقدم هذه الإضافات في شكل نقاط  من باب الترتيب على النحو التالي:

 

نظرية الحتمية القيمية الإعلامية

 

ردا على تساؤل د. محمد الأمين العارف بالموضوع وصاحب المؤلف المتميز "الاتصال غير اللفظي في القرآن الكريم،"  أشار د. نصير بوعلي و د. السعيد بومعيزة و د. سمير لعرج و رقية بوسنان إلى بعض عناصر النظرية ويمكن الرجوع إلى كتابنا "نحو فكر إعلامي متميز" وموجز لها في الفصل الخامس من نفس المرجع كما ذكر د. السعيد أما التلخيص فقد يكون صعبا أحيانا لما قد يحمله من تبسيط أو تشويه، ومع ذلك يمكن المحاولة بالقول أن النظرية تنطلق من افتراض أساس يعتبر الإعلام رسالة وأهم معيار في تقييم الرسالة القيمة التي تمثل الأسمى في المعاني والتي تنبع بالأساس من المعتقد، ثم تتفرع إلى مفاهيم فرعية من مثل الوضع و الخيال "والتمعقل" (من استخدام العقل)  وفعل السمع و البصر والسالب والموجب والرأسمال القيمي والبنية القيمية والمخيال الإعلامي وغيرها.

 

 وقد جرت العادة بنيويا أن يفهم الشيء بضده كالخير مقابل الشر والحسنة بالسيئة والليل بالنهار، والأرض بالسماء، الخ. فيمكن فهم النظرية المذكورة بمقارنتها بنظرية الحتمية التقنية الإعلامية ولعل هذه الطرح ما جعل د. نصير بوعلي يجرى هذه المقارنة في دراسته باللغة الفرنسية  وإليه يعود الفضل في إعطاء هذه التسمية "نظرية الحتمية القيمية الإعلامية" لما أكتبه.


 

 والحاصل أن موضع الجدل الذي يصلني في شأن "الحتمية القيمية الإعلامية" لا يخص المنظور ذاته ولكن مفهوم القيمة ومصدرها فالقيمة ما يسمو بالفرد ويرفعه من معاني  يمكن إدراكها أو استنباطها من النص القرآني والسيرة النبوية والنصوص المرجعية التي أنتجتها الحضارة العربية الإسلامية إضافة إلى النصوص "النهضوية"  الحديثة (بمفهوم القريبة زمانيا) فالقيمة سبقت فعل الإنسان "في البداية كانت الكلمة" وكملة "إقرأ" في الآية القرآنية اتبعت "باسم ربك" أي تكون القراءة في سياق تعاليم إلهية وليست قراءة من دون مرجعية.



 ويمكن فهم العلاقة بين المعتقد والقيمة والإنسان لو دققنا في معنى واشتقاقات كلمة "الخلق" (بفتح الخاء وتسكين اللام)  باللغة العربية فالخالق تعالى هو الأول و الآخر و"إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه،" أما "الخلق" (بفتح الخاء وتسكين اللام) ومنها الإنسان  فمن صنع الخالق تعالى "منها خلقناكم ومنها نعيدكم،"  و أما "الخلق" (بضم الخاء واللام) فتشير إلى القيمة (الأخلاق بوصفها باب من أبواب القيمة) ومن المعلوم أن خلق (من القيمة) الرسول (صلعم) كانت القرآن. . وإذا،  فإن هناك ارتباط وثيق بين الخالق تعالى والخلق (الإنسان) والخلق ( القيمة).



وكلما ارتبطت الرسالة بالقيمة كان أثرها إيجابيا وكلما ابتعدت احتملت الأثر السلبي وحادت عن الأصل على النحو المشاهد في العديد من النصوص الإعلامية كالنصوص الغريزية مثلا هذا الجانب يمثل جزءا من المعادلة، أما الجزء الآخر فيتعلق بتوظيف أدوات منهجية تطورت لدي الغير بحكم ظروف تاريخية معروفة، وهذا التوظيف إنما يكتسب فعاليته و دلالية في إعادة تشكيله بصفة واعية وفق طبيعة الموضوع المدروس.  



 أما علاقة القيمة بالإنسان فعضوية، فالإنسان "مدعو" إلى الارتقاء إلى القيمة وليس تسخير القيمة لواقع أنتجه بالابتعاد عن القيمة، فالإنسان أداة تجسيد القيمة ولا يكون مصدرها، وإنما يمارسها أو يبتعد عنها على النحو الذي نجده في كتب الأخلاق والفلسفة والقانون وغيرها وذلك بفعل أنه "مخلوق" لمهمة وضعها الخالق.



 ويصعب على سبيل المثال أن نتصور قيام "جهاز الكمبيوتر" (المصنوع) بإنتاج البرامج التي تشغله، فالصانع (الإنسان في هذه الحالة) هو الذي يوضع البرامج التي تتحكم و تسير عمل الجهاز  وليس الجهاز (المصنوع) ! على ما في هذه المقارنة من بعض التباعد ولكن المقصود الدلالة وليس الجهة.     ولمزيد من التفاصيل عن النظرية الحتمية الإعلامية يمكن الرجوع إلى توضيحات نور الدين لبجيري في نسخة إلكترونية على  هذا الربط:


http://www.geocities.com/dr.azzi/introvd.pdf



"أسلوب التفكيك" و دريدا و إدوارد السعيد

 

جاء في تعليق د.عبد الوهاب بوشلحية (و لعله من جامعة منتوري) أسفل موضوع "الخوف في الصحافة" ما يلي:      

                                  
"والدارس لكتاباتكم يلحظ ذلك بأسماء كثر الحديث حولها غير أن ما أثار انتباهي وقد سجلته مع ناصر أنكم تستثمرون فلسفة التفكيكية وآلياتها في صمت دون الوقوف عند دريدا أضف إلى ذلك أن الخطاب الإعلامي التفت بعد غياب إلى شخصية إدوارد سعيد بعد تفكيكه للمنظومة الكولونيالية والتي تعد رافدا جديدا في تنمية خطاب العولمة بمعنى أن نقد العولمة كخطاب كان ثانويا في كتابات سعيد لكن لم نفيه حقه، هل معنى ذلك أن سعيد كان متجاوزا لعصره وان قصورنا المعرفي يأتي دوما متأخرا".

     كما ذكرت في الحوار، فإنني أعمل بمبدأ "الحكمة ضالة المؤمن،" فالباحث يحتاج إلى أي أداة تساهم في الكشف عن الظاهرة المدروسة، أما ما خص دريدا بالذات فإنه على ما يبدو  لم يعتبر "التفكيك" منهجية أكثر منها "طريقة في قراءة النص" وقد انشغل بهذه الطريقة قي مقاربة النص الفلسفي والأدبي الغربي واكتسب نوعا من الصدى المعرفي بعد نشر كتابه بعنوان "حول علم القواعد النحوية" وأزعم أن التفكيك الذي مارسه هذا الباحث  نوع من التفكير النقدي الذي ينبثق أثناء قراءة النص ولكن بأدوات بنيوية، فالتفكيك ليس أداة ثابتة يمكن توظيفها في أي نص، فكل نص يولد طريقة تفكيكه إن صح هذا التعبير على أن يكون الباحث يحمل هم "القراءة المستقلة"  بناء على الشك في المسلمات التي قام علها النص وحسن توظيفه للأدوات البنيوية.



وما يجعل التفكيك عند دريدا منفردا اندراجه في سياق المدرسة البنيوية التي ينتمي إليها هذا الباحث وتأثره بتقديمات "لفي ستروس" ولاكان" وخاصة نظرته  إلى النص بوصفه بنية يمكن تبيان العناصر والتناقضات "الكامنة"  التي تؤسسه.



 ومن جهة أخرى فإنه وفي نظري يتعين "التحفظ جزئيا" من استخدام أداة التفكيك من دون وعي ثقافي حضاري ذلك أن التفكيك "من أجل التفكيك" قد يحمل بعض النزعة العدمية على ما ذهب إليه بعض النقاد وفي ذلك صواب.



أما ما أسعى إلى القيام به فيحمل بعض التفكيك ولكن من أجل إعادة البناء انطلاقا من القيمة المعيارية وذلك ما لا ينسجم مع الطرح المذكور إلا في اقتباس الأداة. ولمن ليس له معرفة كثيرة بدريدا و كتاباته، فقد ولد هذا الأخير بالجزائر وعاش بها مرحلة طفولته، ورغم مواكبته للاستعمار الفرنسي في الجزائر وإمكاناته المعرفية و المنهجية، فإنه لم ينشغل بالخطاب الاستعماري ومرت عليه القضية الجزائرية بدون حديث دال يذكر على النحو الملاحظ في الفكر الغربي عامة. 

وبغض النظر عن ذلك، فنحن مطالبون بمعرفة هذه العلوم و الأدوات على النحو الذي فعله علماء الغرب  أنفسهم من مثل ما قام به روجر بيكن  الذي اعترف بأنه أخذ المنهج التجريبي من ابن الهيثم مثلا.    



     أما بالنسبة لإدوارد السعيد، فلم نف حقه بعد وما ذكره د. عبد الوهاب   هو واقع الحال وذلك  لأسباب قد تكون موضوعية وأخرى تعود إلى الحالة "المتردية" التي تشهدها الحالة الثقافية والمعرفية عندنا، فالجيد عادة ما يلقى التجاوب من الجيد، وما تعلق ببعض الأسباب الموضوعية فتكمن في أنه  عاش في محيط غربي وكتب كثيرا باللغة الإنجليزية.



 ومما لا شك فيه أن مؤلفه "تغطية الإسلام" أهم الكتب الإعلامية التي أحدثت أكبر الصدى في الأوساط الغربية إلى يومنا هذا، واستناده  إلى البعد التاريخي المتمثل في الاستشراق سمح بوضع الصور النمطية الغربية عن العالم الإسلامي في السياق التاريخي المتجدد الذي يعدم لأسباب مفهومة في الكتابات الأكاديمية والإعلامية الغربية.

 

أسلمة المعرفة

 

ردا على تساؤل كاتب من جامعة الأمير عبد القادر و  خالد القحطاني (من السعودية)  حول رأيي في موضوع "أسلمة المعرفة" الذي ليس بمجالي، فقد أِشرت في الحوار إلى أن هناك جهودا صادقة في هذه المحور وكنت أشير إلى كتابات أصحاب هذا الطرح والتي سمحت لي الفرصة بالاطلاع على عدد منها مدة من الزمن، ومن روادها على سبيل المثال  دعبد الحميد أبو سليمان صاحب مؤلف "أزمة العقل المسلم" (باللغة الإنجليزية) و غيرهم من الأكاديميين العرب والمسلمين  الذين درسوا بالغرب و أسسوا  "المعهد العالمي للفكر الإسلامي"  الذي يصدر العديد من المواد المعرفية في المجال ومنها "المجلة الأمريكية للعلوم الاجتماعية الإسلامية" (باللغة الإنجليزية).



ولعل أفضل قارىء ومعلق أكاديمي متمكن وذو خبرة واسعة في هذه المجال بالذات الأخ د. إبراهيم رجب (الأستاذ الزائر الآن بجامعة الأزهر) الذي أبدع في تبيان "التصور الإسلامي لتفسير المشكلات الفردية أو المشكلات الشخصية النفسية – الاجتماعية" كما أن المبدأ نفسه يتجسد في بعض المحاولات هنا وهناك دون أن تكون على صلة ضرورة بالمعهد المذكور. 



 والمهم في ذلك أن الأمر فيه جدل بحكم  اختلاف التأويلات حول المفهوم، أما نقدي فيعود إلى أنني وجدت كتاباتهم تعتمد على الكثير من الجاهز من المعرفة و تضفي عليها طابع الأسلمة و في ذلك كسل فكري  و ربما سطو على جهد الآخرين. 



 كما أن هذا الطرح تحول مع الزمن إلى خطاب أكثر منه بمنهج،  أما إذا كان القصد ارتباط العلم النافع بالإيمان فهذا أمر بين، فالراسخون في العلم ينتهي بهم المطاف إلى الإيمان بالله تعالى، كما أن التقوى تكون أحيانا شرطا في الحصول على العلم "و اتقوا الله و يعلمكم الله." .

 

أسئلة خالد القحطاني

 

لمن لا يعرف خالد القحطاني (من السعودية) فهو معلق متمكن ودقيق ويوظف اللغة العربية بإتقان  وقد علق في مناسبة أخرى على كتاباتي بإسهاب و تمعن ولو أنني لم  قرأت أجزءا من "أجرومية و ألفية ابن مالك"  لما تمكنت من النفوذ إلى بيان لغته. 

والحاصل أن الأخ خالد يطرح مسألة  جوهرية تتمثل في نظرية المعرفة التي "من المفروض" أن تكون  أساس بنية التفكير (أو العقل في تعبير الجابري) بالنسبة لباحث ينتمي إلى حضارة متميزة كالحضارة العربية الإسلامية وبتعبير آخر، فإن معرفتنا إنما يمكن أن تكون كذلك إذا كانت مبنية على قاعدة ابستمولوجية تعكس نظرتنا لما حولنا و الكون عامة، و ذلك ما يكاد ينعدم في معارفنا الأكاديمية الحالية. 

 

وفي قوله أن هناك من يزعم  أنه نجم في الوجود الثقافي، فإن لكل امرئ  في ذلك ما نوى، و قد جاء في الأثر دعاء يقول: "اللهم أعوذ بك من الرياء و الجاه و الشهرة الخفية،" قيل: "وما الشهرة الخفية" قال: "أن  تعتقد أنك مشهور و تتصرف بناء على ذلك." فالله نسأل أن ينجي الجميع  من ذلك.



 أما الجابري فهو يمثل محطة بارزة في إعادة قراءة التراث متأثرا بدوره ببعض الأدوات البنيوية، و قد لاحظت أن هناك تطورا يأخذ منحنى متوازن كثيرا إذا ما قارنا بين كتابه "العقل العربي" ومؤلفه الأخير "المدخل إلى القرآن الكريم (الجزء الأول)"،  فقراءته في النص الأخير عقلانية إيمانية أكثر منها توفيق بين البيان و العرفان و البرهان، و في ذلك مجال آخر يمكن العودة إليه في سياق آخر. وإنني أدعو الأخ خالد أن ينخرط في المجال الأكاديمي ويفيدنا بسعة قراءاته و ملاحظاته البناءة.



تعليقات

التنقل السريع